أمامة الترابي، تكتب: الخارجون.. المبدعون

في اطار تمييزها لذاتها، تتجه المجتمعات أو الجماعات لوضع الانماط المعينة التي تعرفها وتحدد نسقها وتبرز قيمها ومحددات هويتها وكينونتها. تبعاً لذلك تتحدد أو تُقيَّم مكانة الأفراد داخل تلك المجتمعات حسب ما يبدونه من توقير لتلك القيم واتباع للانساق المحددة في سعيهم العام في الحياة ومظاهر حياتهم المختلفة بل وحتى في إدارة شؤونهم الخاصة. وتلك الجماعات الراسخة على حال واحد ومستقرة على قدر ما من النفوذ والسلطة ، تخضع أفرادها لتصنيفات تعطي أو تمنع التمييز والاستحقاق تبعاً لما تحدده معاييرها، فتجعلهم في درجات لا يفلتون منها أبداً حتى وان كان تقصيرهم في تلك المعايير خارج عن إرادتهم بسبب اللون أو العرق أو الشكل أو أي وضع لا يختاره الشخص لنفسه بل يجد نفسه مولوداً فيه. وأي قدر من الاحتجاج على حكم تلك المعايير (بمحاولات تجاوز الأطر المحددة أو رفض التصنيفات) يعرض الفرد للنبذ والاقصاء وربما العزل الاجتماعي المؤقت أو الدائم (كيفما كانت شدة التمرد وعمقه). أما حال خروج الافراد على معايير الجماعة أو الاتيان بالجديد أو الشذوذ عن التقليد السائد فيها بالاختيار والإرادة، تستعر حمية الجماعة لحراسة نظمها ومعاييرها وتواجه الخارج بقدر أكبر من التشدد خصوصاً إن كان في أصله من الاقل تميزاً فيها.

والجماعات نفسها قد تصغر وتكبر وتختلف فربما ينتمي الفرد لأكثر من جماعة بدءاً بالأمم والشعوب مروراً بالجماعات الأثنية والثقافية والطبقات الاجتماعية والأجيال العمرية وانتهاءً بالأسر الصغيرة أو الممتدة وزملاء الدراسة أوالعمل وكل هذه الجماعات تنطوي في بنائها على قدر من النظم وتتبع شكلاً من المعايير المُلزمة والمحدِدة وينبري بعض أفراداها لحماية تلك “الثوابت”. ولا شك أن الجماعات الأقدر على البقاء والحفاظ على التميز هي الأكثر مرونة في معاييرها بحيث تحتوي أفراداها (رغم اختلافهم عن النمط) وتستوعب التغيير والتجديد وتحتمل مراجعة ومسائلة ما يسمى بالثوابت*.

وفي كل حين وآن، وعبر سيرة البشرية، يظهر الخارجون على التقاليد الموروثة والناقدون للنظم العتيدة تلك المتمردون على أحكامها وتصنيفاتها ممن لا يبالون بالتصنيفات (المُحِطة من شأنهم) التي تضعهم فيهم جماعاتهم (على إثر خروجهم) ويتحررون من قيود التقليد والنمط فيبتدرون مساراتهم الجديدة في الحياة والتي كثيراً ما تركت أثراً واضحاً على صفحة التاريخ وأحدثت التغييرات الكبرى والمهمة في مسار البشر.

وإن نظرنا لهؤلاء الخارجين نجدهم مختلفي المشارب والأثر بدءاً بالرسل والانبياء والمصلحين ورواد التغيير والتجديد الديني والاجتماعي والثقافي مروراً بالعلماء والمخترعين وأصحاب النظريات العلمية والمناهج العملية الرائدة والفنانين (كالشعراء والكتاب والرسامين والموسيقيين) مبتدري المدارس الفنية الجديدة والبديعة.

إن الخروج على النمط والتقليد ينطوي على قدر من الاستقلالية والعقل الوثاب المتسائل (كعقل ابراهيم عليه السلام وهو يبحث عن الرب الحق) والشجاعة والمقدرة على اعتزال القطيع وتحمل أذى الاقصاء بل وربما العدوان المباشر ومقاومة جاذبية التميز (في الجماعة) التي تُمنح لمن يتبع ويسمع ويطيع! وأكثر من ذلك فإن الخارج عن المألوف أقدر على النظر للصورة الكاملة وملاحظة الخلل أو غيره بخلاف المنغمس الذي لا يرى إلا ما/ من يحيط به من المألوف والمعلوم والتقليدي. وإن المقدرة على الاختلاف والاستقلال وتحمل تبعات ذلك الاختلاف الذي قد يجعل من الفرد (في نظر الجماعة أو أي شكل من أشكال السلطة) شخصاً غريباً أو منبوذاً أو متمرداً، هي من سمات اصحاب الريادة والمبدعين وقد تستقيم مساعيهم فيسهموا في ابتدار الجديد المفيد والخير وربما تنغلق عليهم سبل التغيير وتشتد قبضة التقليد فيصعب عليهم الاهتداء لجديد أفضل فتشذ مساعيهم وتنحرف عن فعل الخير وإحداث الاثر الطيب. والمجتمعات الكبيرة والجماعات الأصغر وحتى الأسر الناجحة، هي التي تضمن لأفرادها امكانية الاختلاف والتجديد والتغيير ولا تطلب الطاعة العمياء وتفتح أبواب الحوار وتقبل الخروج عن التقليد وتتطور وتتقدم بالمناهج الجديدة للمصلحين والمجددين والمبدعين.

*راجع مكتوب: السؤال الجاد والمستمر
أمامة حسن الترابي
15 نوفمبر 2020

Related posts