أمامة الترابي تكتب ..عاطفة الشعر



عاطفة الشعر
أمامة حسن عبد الله الترابي

تتعدد مواضيع الشعر العربي وتتنوع بين الوصف والفخر والمدح والهجاء والغزل والحكمة والرثاء ورواية الأحداث. من المؤكد أن المنتج الشعري للعرب منذ الجاهلية وحتى آن قريب ظل هو الأميز فهم أهل فصاحة وتأمل وفكر في حالهم وحال دنياهم وتظل أبيات الشعرالعربي على مد الأزمان هي المخزن الأكبر لحكمة العرب ولقيمهم الثقافية وراصدة وواصفة لحالهم الشعر العربي هو الأكثر أثراً على وجدان أهل العربية والأكثر استعمالاً أو اقتباساً في تعبيرهم عن أنفسهم كيفما كان الحال بين الحب والبغض وبين السلم والحرب وفي الوصف والفخر والرثاء والحكي والحكمة.
كثيراً ما ذهب أهل العربية يعيّنون أميز القصائد أو الابيات في الموضوعات المختلفة للشعر وأغراضه. لا يخفى على ناظر أو باحث أن الشعر العربي وقديمه بالتحديد هو الأبلغ والأدق وصفاً لحال البيئة من أرض ونبات وحيوان واختصت فيه الدواب (التي تحمل الشاعر) بالقدح المعلى في الوصف المعجَب والمميِز لها إذ أنها رفيقة ذلك الشاعر العربي المترحل الذي غالباً ما يسافر وحيداً معها أو في قلة من الأصحاب و ربما يمكننا ان نسبب أهمية الوصف للطبيعة وللدابة لأحوال حياة العرب القديمة التي اتسمت بالترحال والسفر الدائمين بحثاً عن الماء والكلأ والحياة وربما المغامرة. بطبيعة الحال فإن الوصف يكاد يخلو من الحمولات العاطفية عدا تلك التي يحملها الشاعر لدابته. ولكن وفي مبحث آخر عن العواطف والمشاعر الأقوى التي تنتج الشعر الأجمل صنعة والأجزل لغة والأبلغ وقعاً والأبقى أثراً يمكننا أن ننظر للمدح والهجاء والغزل والفخر والرثاء والحكمة. لغرض هذا المكتوب المختصر سأقف على ما جادت به قريحة الشاعران المجيدان المتنبيء ومالك بن الريب.
إن للمتنبيء إنتاج شعري غزير ومتنوع بين كافة أغراض الشعر. مدح أبو الطيب الكثير من أهل الحكم والمكانة العالية بين الناس ربما حباً وربما طمعاً ورثا بعض منهم كذلك وهجا آخرين منهم ومن دونهم وتغزل ووصف بعض المشاهد شيئاً ما بشعر بليغ وفصيح ولكن حالما يتحول من أحد تلك الاغراض السابقة- وفي نفس القصيدة- للفخر فإنه يفيض جزالة وبلاغة وتكاد كلماته تنطق وهي في ورقها المكتوب وتكون كالحديث الحي الذي يسمعه المرء مباشرة منه وغالباً ما تأتي مع أبياته المفاخرة أبيات الحكمة والمعرفة بأحوال الدنيا والناس فيزداد شعره ألقاً وعذبة ويدخل الوجدان بلا جهد. الميمية، وهي آخر ما أنشد المتنبيء في مجلس سيف الدولة الحمداني أشهر من مدحه المتنبيء تلخص هذا التحليل فهي وبلا شك تُبرز شاعرية المتنبيء العالية وتمكنه من ناصية اللغة حال أنه استُفز بما صار بينه وبين سيف الدولة من وشايات فظهرت عاطفته تلك التي استفزاها الحال في شعر بليغ فاخر فيه ومزج الفخر بالحكمة وبعض من اللوم لممدوحه الأثير! وفي مواضع كثيرة من شعر المتنبي لا يتسع المجال للتفصيل فيها، بدت حكمته حينما بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أو يسليها عن واقع حال الدنيا الذي راءاه بائساً أو مجحفاً فظهرت عاطفته المستفزة الغاضبة أو الحزينة أو النادمة أو اللائمة أو المفاخرة- تسلية لنفسه- في شعر بديع.
أما مالك بن الريب فسننظر في قصيدته العصماء التي رثى فيها نفسه وهو في طريق السفر عائداً من الغزو في جهات فارس ومن شدة جمال القصيدة وحسنها الفريد فقد نسج الناس حولها الأساطير قائلين أن الجن قد كتبها ووضعها تحت رأسه حين مات! وفي تقديري أن يائية مالك بن الريب تظل هي الأبدع ادباً والأرفع بلاغة والأكثر جزالة وعذوبة في المعنى والمبنى، فقد رثا مالك بن الريب نفسه وهو على شرفة الموت في بلاد بعيدة غريباً يعلم أن موته سيشهده قلة من أصحاب السفر وأن قبره سيظل نائياً عن أهله وأحبابه. ومن حسن القصيدة وجمالها يكاد القاريء يرى حال ابن الريب وهو يعاني سكرات الموت ويرى حاله الذي وصفه حينما كان سيداً بين أهله معززاً في دياره والتي وصفها كذلك وتحسر على بعده منها ويرى حال أهله حين يصلهم خبر منيته بل وحال دابته حين يذهبه الموت عنها. وتظل وصايا ابن الريب لصحبته في السفر ولوالدته من أجمل ما قرأت من الشعر. ومن بين حادثات الدنيا وابتلاءتها يكاد لا يوجد حدث أبلغ وأعمق أثراً من الموت على عاطفة البشر وانفعالاتهم. أتى حال الموت والغربة في شعر مالك بن الريب فحرك عاطفة حقيقة لا مراء فيها ولا تلون ولا تستر فحين يدهم الموت تصدق التعابير بلا شك فكيف إن كان الموت هو موت الشاعر نفسه، وتأتي بدرجة أقل في الأثر أحوال أخرى تحرك وتستفز العواطف الصادقة كحال المتنبيء حين يغضب لنفسه وتنكسر آماله ويتكالب عليه الناس وتمتنع الأقدار عن عطائه ما يطلب من كسب. ينساب الشعر الجميل والبديع من العاطفة الصادقة والحقيقية التي لا تصنع فيها ولا مجاملة ولا طمع ولا تكلف.
تظل المشاعر والعواطف الصادقة والتي تتحرك بفعل الحادثات الجسام غالباً والتي تمس روح الانسان في عمقها هي الأقدر على الإتيان بالتعابير الأبلغ والتي تصل للمتلقي بسهولة وجزالة وتتميز تلك التعابير – الشعرية منها خصوصاً- بالعذوبة الحقيقية وتترك الأثر الأوقع على أذن سامعها أو قارئها ووجدانه. لا أدري من الذي تجرأ إدعاءً بأن أعذب الشعر أكذبه فالشعرالكاذب تملقاً وتكلفاً، وإن جاء مع الصنعة الجيدة والحبكة اللغوية الصحيحة، يظل بائساً أمام التعابير الشعرية التي تأتي من العواطف الإنسانية العميقة وتظل حادثات الدنيا العظيمة والمتحدية غالباً ذات أثر بالغ في استفزاز فعل البشر عموماً وقريحة الأدباء خصوصاً فيأتون بأجود وأصدق ما عندهم . وختاماً أرجو أن يتسع زمن القاريء الكريم ليطلع – ربما مرة أخرى على القصيدتين البديعتين ولا بأس إن امتد الزمن للاطلاع على المزيد من شعر المتنبيء!
7 مارس 2020

Related posts