أمامة الترابي تكتب: الجزيئات الوافدة

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شك أن المجتمعات في تشكلاتها الأكبر كشعوب أو أمم أو الأصغر كمجتمعات محلية أو اقليمية، تتشرك في هموم كبرى وعامة لا خلاف على أهميتها لجميع البشر باختلاف مناطقهم الجغرافية وتوجهاتهم الثقافيىة في كلياتها وجزئياتها. وإن اتفق البشر على عموم تلك الهموم والقضايا فإن أهمية وأولوية بعضها على بعض تختلف بين مجتمع وآخر. ومن جانب آخر يتضح جلياً أن عالمنا اليوم يخضع لتصنيفات تفاضلية بين الأمم والشعوب من حيث التقدم المادي أو الحضاري (أو الإثنان معاً) مما يجعل بعض الدول وشعوبها في مواقع متقدمة في التراتبية العالمية وذات نفوذ وسيطرة أكثر على حياة البشر عامة . بالتالي فإن تعريف تلك الشعوب المسيطرة والقوية للهموم العامة والقضايا الأهم يتمتع بكونه الأكثر رواجاً . ونسبة لسيطرة تلك الأمم أو الدول على مؤسسات التواصل والتعاون الدولي كالأمم المتحدة أو المنظمات الأقليمية الكبرى، فإن رؤيتها لأهمية قضية ما وأولويتها تُفرض على الجميع بشكل أو بآخر، وبدرجة أقل أو أكثر، عبر تلك المؤسسات كون أنها مؤسستها وممولتها الأساسية وتمتلك الوسائل والتقنيات الأبلغ لترويج رؤاها تلك والعمل على دفع الشعوب أو الدول الأخرى، الأقل حظاً في السيطرة، على تبنيها وجعلها أولوية لها كذلك.

نظراً لأحوال المجتمعات التي تعيش في الدول الأقل حظاً في النفوذ العالمي، نجد أنها في حقيقة الأمر، تواجه قضايا أبلغ وأشمل و مازالت تحاول الإجابة عن أسئلة أساسية ربما تجاوزتها تلك الدول المسيطرة في مسيرتها نحو التقدم والحضارة وفرض النفوذ. على سبيل المثال، فإن أغلب شعوب دول العالم الثالث تلك لم تتواضع بعد على عقود اجتماعية حاكمة لها ومستقرة بشكل كاف يضمن تنظيم حركتها نحو التقدم والخروج بها من دائرة التنافر الإجتماعي و الفوضى السياسية. هناك اعتبارات أخرى تؤثر على استقرار تلك الدول وشعوبها تتعلق بالنسق العالمي لحركة الإقتصاد والتجارة وحوجة تلك الدول للانضواء تحت مظلة المؤسسات العالمية لتحقيق قدر ما من التواصل مع العالم والفائدة الإقتصادية، فتصبح مرهونة أو ملزمة بمواثيق ونظم عامة لا تناسب إمكانياتها الثقافية والإقتصادية ولا تلبي حاجاتها الأهم، ومن باب أولى لا تخاطب جذور أزماتها أو تسهم في حل قضاياها الكلية بشكل وظيفي وفعال. الشاهد أنه كثيراً ما تتبنى تلك الدول المسيطرة رؤيً تنظر للقضايا من منظور “عالمي” يراها قضايا ملحة ومهمة وهي في الجانب الآخر (الأضعف مادياً وحضارياً) من العالم ليست إلا تمظهرات وقضايا جزئية تعبر عن القصور الأشمل والكلي في نسق التعاقد الإجتماعي والتوجهات المصيرية والتاريخية في ذلك الجانب الأقل سيطرة!

وإذا نظرنا لحركة كثير من الفاعلين في مجتمعات تلك الدول الأقل نفوذاً، نرى أنها قد تأثرت بتلك الرؤى الوافدة من الأقوياء وتبتنها كأنما هي القضايا الألح في مجتمعاتهم وهذا أمر مفهوم ويسهل تفسيره حال كان هؤلاء الفاعلين يتحركون ضمن الشبكات التنظيمية التابعة للمؤسسات الدولية تلك والتي تمولها وتخطط لها وتنظّر لها الدول الأكثر نفوذاً، ولكن وبفعل علو الصوت والآلة الإعلامية الطاغية المؤثرة والصور النمطية والنماذج الوافدة على الأضعف والمُصدّرة من الأقوى، أصبح من العسير على غالب مجتمعات الدول الأقل نمواً/ تطوراً/ تقدماً/ قوةً تلك أن تنصرف لشؤونها الأهم ومشاكلها الكلية، وانغمست في قضايا قد تكون مهمة لصلاح مجتمعاتها ولكنها ليست الأهم.

يمكننا أن نضرب المثل بأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة والتي ينص غالبها على معايير محددة للعدالة الإجتماعية والرفاه كمحاربة الفقر وضمان التعليم الأساسي والمحافظة على الصحة العامة وصحة البيئة، فنجد أنه ومن ناحية نظرية ومبدئية، لا يختلف عاقلان على أهمية أن يتحرك أي مجتمع ليقضي على أوجه الظلم الاجتماعي أو القصور في الخدمات الاجتماعية ويكفل قدر من الحياة الكريمة (بالمعايير أعلاه) لأفراده، لكننا وإن ضربنا المثل من ناحية أخرى بالقضايا الكلية التي تواجه تلك المجتمعات/ الدول ( الأقل سيطرة) كمشاكل الاستقرار السياسي والتعاقد الإجتماعي الثابت، نرى أنه من العسير بمكان على تلك المجتمعات/ الدول أن تقضي على مظاهر الظلم الاجتماعي أو التعثر الاقتصادي أو العنف أو خلافهم من مشاكل تهدد أمن العالم ككل. في هذا الحال تظل تلك الرؤى العالمية في حقيقة الأمر، هموم وافدة على الكثيرين في العالم إذ لا يد لهم في تعريفها أو تحديد مدى اهميتها أو حتى التخطيط لمواجهتها. بل أكثر من ذلك ، تظل الجهود العالمية الكثيفة (من خلال كثير من المؤسسات الرسمية العالمية والإقليمية) المبذولة لتحقيقها، تستهلك الكثير من المال والجهد دون أن تجدي نفعاً يكافيء ذلك الجهد ويحقق أهدافه بشكل مستدام ومستقر نسبة لأن أصل المشكلات يظل قائماً ويضرب في أساس استقرار المجتمعات وكيانها. وتحت ضغط النفوذ والسيطرة، ينجرف الكثير من البناء المحلي الذي ربما كان له أن يتطور ليضمن قدر ما من التعاقدات الاجتماعية الأصيلة والملائمة لمخاطبة كليات القضايا في مجتمعاتها، ويخلف ذلك الجرف فراغاً ثقافياً وحضارياً يملؤه الانشغال بتلك الهموم الجزئية المستوردة أو الوافدة!!

أمامة حسن الترابي
غرة أغسطس 2020
 السبت 12 ذو الحجة 1441ﻫ

Related posts