أمامة الترابي .. تكتب .. التحيز المألوف

أمامة الترابي تكتب (التحيز المألوف)

التحيز المألوف
بقلم :أمامة حسن الترابي
في مجالات العمل والتعاملات الإجتماعية والحياة اليومية يتوجب على أي شخص عادي أن يتخذ قرارات عديدة بعضها يتعلق به شخصياً ويلزمه ولا يتعداه في أثره وبعضها بالمقابل يتعلق بتعامله مع من حوله وما حوله ويؤثر على بيئته وعلى ما حوله من حياة. هذا الأثر يكون له تفاعلات ونتائج وعواقب أكبر وأبلغ كلما ارتفعت مكانة الشخص المهنية والإجتماعية وزادت سيطرته على الموارد ومصائر الآخرين. بطبيعة الحال فإننا كبشر نتوقع من أنفسنا حال كوننا قد بلغنا مدارج متقدمة في الحياة أن نتصرف بطريقة أخلاقية وواعية ومسئولة خصوصاً في المواقع الأكاديمية والمهنية المحترمة والإجتماعية المقدرة التي عادة ما يبلغها المرء بعد تَعلّمٍ وبذلٍ للجهد المادي والمعنوي وتهذيب للنفس ومقدرة على إسداء الإحترام للآخرين.
هنا يعنُّ سؤالٌ مهم أو فلنسمها قضية مهمة وهي مقدرة المرء فعلاً لا قولاً على العدل والإنصاف واتخاذ القرارات بناءً على نسق أخلاقي متجنباً التحيزات خصوصاً إن كان اتخاذ القرارات يتم في المجال العام ويؤثر تبعاً لذلك على الحقوق العامة للناس في مجتمع ما أو مكان عمل أو دراسة ما. غالباً وعندما يتعلق الأمر بالقرارات الكبيرة والتي تستغرق بالضرورة الكثير من الوقت وتستدعي الواسع من المشورة والمزيد من الاطلاع بل وربما مراجعة القوانين واللوائح والإحصاءات ذات الصلة، فإن قرارات المؤسسات أو الأشخاص القائمين عليها عادة ما تُجانب التحيزات والأحكام المسبقة وتنحى لتكون أكثر عدلاً لا تعطي أكثر لمن نفضلهم كأشخاص أو مجموعات وبالتالي لا تمنع ممن هم على النقيض من ذلك. ولكن لا بد من الاعتراف بوجود ما يسمى بالتحيز الاعتيادي أو المألوف وهو ما يُسهم في اتخاذ قرارات بطريقة غير أخلاقية أو غير منصفة أو غير مستقيمة وعادة ما تكون هذه السمات المشينة والسيئة غائبة عن أذهان البشروإدراكهم وهم يتخذون قراراتهم تلك. بطبع نقاشنا هذا فإننا لا نتناول القرارات التي يتخذها أشخاص أو مؤسسات لا تهتم لأمر الأخلاق والإستقامة والانصاف بشكل معلوم بل ننظر في أن من يتأثر بهذا التحيز المألوف هم أشخاص وربما مؤسسات يصنفون أنفسهم أوفلنقل يُصنفون عموماً كأشخاص متميزين ومستقيمين ومتقدمين في مؤسسات رسمية أو خلافها. كذلك فإن التحيزات التي نتناولها هنا ليست تحيزات معلنة ومبادئ تستبعد الآخر كما هو حال المتطرفين من بني البشر بل هي تفضيلات ضمنية وغير واعية يحملها غالب الناس وإن ارتفع بهم مقام الاخلاق والاستقامة والعدل.
وحتى لا نرمي بالأمر على عقل الانسان الباطن هكذا بدون تمييز يجب أن نعرف كيف يتم بناء اللاوعي هذا الذي يحمل تحيزاتنا المألوفة التي لا ندركها ومشاعرنا وعواطفنا الحقيقية بل وسماتنا الشخصية الأقوي والاعمق. في تطورنا ونشأتنا منذ الصغر عادةً يقوم والدينا وأقاربنا بتقديم الحماية والرعاية لنا وتوفير سبل التقدم والترقي في مدارج الحياة وهذا يتضمن أن يقدموا لنا ما نحتاج وما نريد من دعم معنوي ومادي ويبعدوا عنا ما أمكن الأذى والشر. تظل دائرة الدعم هذه في اتساع وتمدد بتوسع مجالات تداخلنا وتعاملنا في الحياة ولكن تظل الدائرة الأولى التي قدمتنا للحياة هي الأكبر سهماً والأبلغ في عقولنا وتظل ذات الأثر الأعمق في شخصياتنا وتفاعلنا سواءً أدركنا ذلك واعترفنا به أو لم نفعل. س أضرب المثل بصبي يحب والدته ويرتبط بها كثيراً كما هو المعتاد و بعدما تقدم به العمر وأصبح رجلاً، قابل سيدة في عمر والدته تقريباً ولكنها غريبة عنه تماماً تحمل نفس عطر والدته أو نفس ملامحها، فإن هذا الشخص وبدون تفكير كثير سينشرح صدره لرؤية هذه السيدة الغريبة والنظر لها وغالباً سيتودد لها وربما يقدم لها ما يلزم من مساعدات قد لا يهتم كثيراً لأن يقدمها لغيرها من السيدات في عمرها ومقامها وكل هذا يحدث لارتباط شكل هذه السيدة بشكل والدته والتي تعني له الكثير من الارتباطات الإيجايبية العميقة والمؤثرة فيه منذ الطفولة الباكرة. نفس المثال هذا يصح على من يذكّرنا مجرد شكلهم الخارجي أو تعاملهم البسيط بأناس لا نحبهم وارتبطوا في عقلنا الناشئ بارتباطات منفرة وسالبة فغالباً ما نعاملهم بالتجنب والإستبعاد والإنكار.
هكذا وبعد ومعرفتنا بحقيقة أننا ومهما ادعينا من إستقامة وحسن تخلق فإننا نتحيز ولو شيئاً ما لمن نحبهم ولمن يشبهوننا أكثر ويشتركون معنا في سماتهم العامة وتصنيفاتهم المبنية على الدين أو العرق أو المهنة أو النسق الإجتماعي أو العمر أو الجنس أو اللغة. إن أخطر ما في هذا التحيز كما سلف هو كونه تحيز غير مُدرَك ولا مُعترَف به من جهة ومن جهة أخرى كون فرص تأثيره السلبي على الأفراد والمجتمعات تظل دوماً حاضرة. في هذه المنطقة المظلمة والملتبسة، ربما يقوم الكثير من الأشخاص الخيرين والمؤسسات ذات المبادئ السامية بممارسات ظالمة ومجحفة وغير أخلاقية في حق الآخرين خصوصاً في حال القرارات السريعة أو التقديرية والتي لا يُتاح لها كثير من المراجعة والتمحيص كما سبق وذكرنا بل وربما لم تسعف كل معرفة اللوائح والاجراءات وطلب المشورة والتقصي في الوصول لقرار نهائي أو حاسم. سنضرب مثلاً هنا برجل قانون أو موظف دولة رفيع عليه أن يتخذ قراراً مهماً بناءً على سلطته التقديرية أو مدير مؤسسة كبيرة عليه أن يختار بين شخصين تساوت مؤهلاتهما لشغل منصب مرموق ويمكننا كذلك أن نذهب بالأمثلة لأكثر من ذلك ونستشهد بشرطي أو نظامي يملك سلاحاً في وضع ما وعليه أن يقرر إن كان سيطلق رصاصة ربما تكون قاتلة أم لا!
عوداً لعقل البشر العميق وبنائهم السلوكي يمكننا أن نقول بأن تعاملاتنا ومعارفنا المسبقة والسالفة في الحياة هي التي ترجح كفة سلوك نهج ما على حساب الآخر، لذلك فإن اكفأ ما يمكن لضمان أخلاقية واستقامة قرارات البشر أفراداً كانوا أو مؤسسات هو تعرضهم الدائم والمستمر للمختلف عنهم وللآخر ومسائلتهم الواعية بل وربما العنيفة للتحيزات الكامنة و وتحديها بالفعل الذي يناقضها ويضعف تأثيرها بالتدريج.
Omama H. Elturabi

Related posts