أمامة حسن الترابي تكتب : علم ينفع وعلم أنفع

في ما شاع من تعبير الخواجات عن سهولة الأشياء فهماً وتعلماً انهم يقولون “it’s not rocket science ” .. ويذكر التعبير في سياق ان أمر ما ليس من الصعوبة بمكان فهو ليس “علم صواريخ” .. ولا شك ان التعبير مبني على افتراض أن علم الصواريخ خصوصا وما يرتبط به من علوم نظرية وتطبيقية كالفيزياء مثلا علوم معقدة وصعبة الفهم تحتاج لدراية واسعة ونباهة بالغة وتدقيق شديد
الواضح ان التعبير يظهر تقديرا كبيرا للعلوم التطبيقية ويرفعها مكانا عليا في درجات المعرفة. وهذا التعظيم من شأن العلوم التطبيقية نجده بائناً في تفضيلات العلوم والمهن عند سكان الكوكب لا سيما أولئك الذين يعيشون أو تربوا في الدول الأقل حظاً من الموارد المادية.
ويأتي هنا السؤال المهم، هل العلوم التطبيقية فعلا هي الأعقد والاجدر بالمكانة العالية والاعتبار؟. وان كان لي أن اعكس السؤال اقول، هل العلوم الاجتماعية أسهل وأقل تعقيدا وليست بصعبة على الفهم والاحاطة؟
في حقيقة الأمر فإن العلوم الإنسانية الاجتماعية كالقانون والادب وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والإدارة والاقتصاد ان قورنت بالعلوم التطبيقية

كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والأحياء وفروعها المترابطة، فهي أقل انضباطاً لا تحكمها القوانين الحسابية الثابتة ولا الصنع الرباني المحكم المحدد لوظائف الكون والمخلوقات.
إن العلوم الاجتماعية وبلا شك علوم لا تنضبط تماماً ولا مطلق فيها، فهي مرتبطة بمعرفة البشر وإدراكهم وأحوالهم النفسية والعقلية وهي في ذات الحين تؤثر أيما أثر على حياة الناس في جانبها المعنوي/ النفسي. في هذا العصر “الحديث” تمكن البشر مما سخر لهم الله في السموات والأرض وتطورت العلوم التطبيقية تطوراً كبيراً وربما سريعاً وصل ببني البشر للفضاء وغيرت التقنيات المختلفة شكل الحياة وتفاصيلها المادية ولا شك أن المزيد من إجادة وتطوير تلك العلوم ما زال بين يدي البشر.
اما اذا نظرنا لأحوال الناس المعنوية او النفسية ولاحوال تعاملهم مع بعضهم البعض في مجتمعات صغيرة او كبيرة وما ينظم ويضبط ويشرح كل هذه الأحوال من علوم إنسانية اجتماعية، نجد أن البشرية ما زالت متأخرة في تحقيق الرفاه الإنساني الحقيقي إن لم تكن قد تدهورت فعلاً عما قبل. فعلى مستوى النفس البشرية مثلا نجد أن هذه العلوم، وبعد قرون من

نشاتها، ما زالت لا تمتلك اقوالاً قاطعة ولا اجابات/ تفسيرات شافية حول العديد من حالات تداخل الإنسان في جماعة أو حالاته النفسية كفرد. إن العلوم المنشغلة بنفس الإنسان وأحواله فرداً ومجتمعاً وإن لم تجد حظاً من التمجيد والتعظيم وعلو الشأن عند عموم البشر اليوم، فهي العلوم الأعقد والأصعب وإن لم يعرها العالم “المادي” ما تستحق من اهتمام.
المتأمل في أحوال البشر اليوم يجد ان شخصاً ما يعيش في دول العالم الأول مثلاً قد يحظى بخدمات مادية جيدة ومستقرة وتقنية متقدمة تجعل حياته اليومية والعملية أسهل مما كانت عليه حياة أسلافه قبل مائة أو خمسين عام مثلاً، ولكن على صعيد الحالات الإنسانية، هل البشر اليوم آكثر رضاً واستقراراً نفسياً،ط ومحبة لبعضهم البعض وتعايشاُ سلساً وآمناُ واطمئناناً على مستقبلهم وتكافلاً وفاعلية اجتماعية؟
إن العلوم جميعها تؤثر بشكل متراكب ومعقد على الأفراد والمجتمعات. ولتبيان بعض من الترابط، يمكننا النظر لعلم الطب لتأثره المباشر أو غير المباشر أحيانً بأحوال الإنسان الخاصة (المزاج والادراك والنفس)، فنجد في الطب قدر لا بأس به من التداخل مع علم النفس خصوصاً في تفسير كيف يمرض شخص ما

بمرض “عضوي” ما وكيف يشفى أو لا يشفى منه وهذا للارتباط الوثيق غير المعلوم أو المحدد تماماً بين أحوال الصحة المادية والأعضاء التي يمكن قياسها وأحوال النفس والذهن صعبة القياس والتعيير.
الناظر لحال البشر والمجتمعات اليوم يتبين له قصور جهد بني البشر وعجزها النسبي عن الإحاطة بالعلوم الإنسانية الاجتماعية تلك ولا أدري تماماً إن كان هذا الأمر يعود لصعوبتها وتعقيدها أم لانصراف بني البشر عنها نحو العلوم الأكثر انضباطاً والتطبيقية التي تؤثر مادياً على حياة البشر ومستقبلهم، لكن ما اعلمه تماماً أن نفس الإنسان وأحوالها أعقد بكثير من “علم الصواريخ”!

Related posts