أمامة الترابي تكتب ..المعرفة والتخصص

مع انتشار التعليم في عصرنا الحديث هذا، ارتبطت الفرص في سوق العمل بالحصول على الشهادات الأكاديمية أو التدريب النظامي أو الإثنين معاً كحد أدنى لدخول سوق العمل المنظم أو الترقي في المهن في كافة المجالات التطبيقية وخلافها. تظل هنالك بعض مجالات العمل العام غير المهنية بالضرورة والتي تجذب الكثير من البشر من كافة الخلفيات الأكاديمية والتأهليلة فالدخول لها والتقدم فيها لا يتبع بالضرورة الطرق الكلاسيكية التي تنطبق على سوق العمل أو حتى الطرق المعروفة للتقدم في مجال ريادة الأعمال مثلاً والذي يعتبر أكثر مرونة من العمل المهني أو التقني. من الملاحظ أن المشتغلين في مجالات العمل العام هؤلاء غالباً ما يكون لهم الأثر الأكبر في مجتمعاتهم خصوصاً تلك المجتمعات المتكونة حديثاً (بصورة نسبية) والتي لم تستقر فيها بعد عقود اجتماعية (دساتير أو أوضاع عرفية) قديمة أو قوية ولا حتى نظم سياسية واجتماعية متعارف ومتفق عليها فهي دوماً في حال اضطراب وتغير. يكون هؤلاء اللاعبون في المجال العام ذوي أثر أبلغ في تلك المجتمعات المبتدئة نسبياً، وكلما ازداد تعقيد المجتمعات وازداد اضطراباها، إزدادت مؤهلات الشغل الصالح والطيب في الفضاء العام تعقيداً وتشابكاً بين المعارف والمهارات والخبرات المكتسبة والمؤهلات الشخصية (غير المكتسبة غالباً).

في مجالات العمل المهني والمنظم، يكون الأمر أكثر وضوحاً من حيث سؤال التأهل، فالكفاءة لشغل المواقع غالباً ما تنبني على معايير التأهيل الأكاديمي اللازم الذي يوفر المعرفة ويكسب الشخص المهارات الأساسية المضمونة بشهادة أكاديمية ما ومن ثم التدريب العملي الذي غالباً ما يكون ضمن البرامج الأكاديمية (في النظم التعليمية المتطورة). أما التقدم المهني، فله متطلبات أخرى تربو على متطلبات الدخول وترتكز غالباً على الخبرة العملية والمهارات التخصصية المكتسبة بتطور مهني منضبط (شهادات وإجازات مهنية). ربما يحتاج الشخص الذي يطمح للتنافس على مواقع مهنية متقدمة لاكتساب معارف علمية وعملية متعددة تلتقي كلها لتزيد من مقدرة الشخص (في المواقع المهنية القيادية) على حل المشكلات والإبداع وتطوير العمل ومساعدة من حوله ونقل خبراته ومهاراته، وتعتبر الأربع مؤشرات هذه الأهم في سمات القادة الناجحين في المجالات المهنية أو حتى العامة. أثناء التقدم المهني هذا يبرز سؤال: أيهما أجدى وأجدر بالاكتساب، المعرفة والمهارة المتخصصة المحددة أم المعارف والمهارات العامة؟ لا شك أنه في حال الأعمال التقنية والدقيقة ،والتي لا تنطوي عليها أعمال الأدوار القيادية والريادية في سوق العمل، تكون المهارة والمعرفة المتخصصة أقيم وأجدى وربما تضمن دخلاً مجزياً ومضموناً، ولكن الأمر ليس كذلك لمن يريد التقدم للأدوار الريادية وقيادة مؤسسة مهنية أو عامة (لحد ما) ما فلا بد له في تقدمه نحو القيادة من الإلمام بمعارف ومهارات عامة من خلال تجارب علمية وعملية متنوعة ومعقدة تستدعي دراسة واستخدام أكثر من منهج واحد مع الحفاظ على القدر اللازم من المعرفة المتخصصة في مجال عمل المؤسسة الأساسي. للتبسيط النظري فإن الأمر أشبه بحرف T اللاتيني، حيث أن الخط القائم هو المعرفة والمهارة المتخصصة والعميقة والخط الافقي هو المعارف والمهارات العامة اللازمة لإدارة التعقيد الذي تتسم به الأدوار القيادية. بطبيعة الحال فإن هذه المهارات العامة تختلف من من مجال لآخر فارتباط المجالات ببعضها معقد بعض الشيء حيث أن العمل في المواقع المتقدمة في مجال التعليم مثلاً، يستدعي معرفة ما في علم النفس الاجتماع والقانون والإدارة أكثر من تلك التي تكتسب في قاعات الدرس أو التدريب المنظم. ببساطة، لا يضمن التعليم النظري أو التدريب المنظم بلوغ الكفاءة دون تطوير خبرات معقدة ومتنوعة تصقل المهارة وربما حتى الموهبة. إن اكتساب و تطوير المعارف و المهارات العامة قرين كذلك باختلاف السمات الشخصية والمواهب الذي يجعل أحدهم في وضع استعدادٍ لأن يتجه قدماً نحو القيادة والريادة بينما يظل الآخر مشغولاً بتطوير المعارف والمهارات المتخصصة جداً ذات القيمة المهنية والتقنية والتي تنحصر في تطوير العلوم والتقنيات (التطبيقية خصوصاً) وتبتعد عن الأثر العام المعقد والشامل.

أما فيما يخص الاشتغال بالمجالات العامة أساساً (بعيدا عن المهن أو ريادة الأعمال) ، فيمكن أن يأيته دارس الطب أو الهندسة أو الزراعة كما يأتيه دارس الآداب أو اللغات أو القانون أو الاقتصاد. هنا تكون مؤهلات التقدم والانجاز معقدة جداً وتزداد تعقيداً مع أوضاع المجتمعات المعينة ونظمها السياسية والإجتماعية والدينية والثقافية. يكون الأمر أوضح وأسهل في المجتمعات الأكثر استقراراً- كما اسلفت أعلاه- حيث استقر الحال على دساتير أو نظم عرفية لا تضطرب كثيراً ولا تتغير إلا بمناهج محددة متفق عليها لحد كبير. كما أن الانتماءات السياسية والدينية والتصنيفات الإجتماعية- الاقتصادية والخلفيات الثقافية وربما الأثنية، تلعب جميعها دوراً كبيراً في تأهيل وتقدم المشتغلين في العمل العام أياً كان حال الدولة أو المجتمع محل حركتهم وتأثيرهم فالمعارف والمهارات المكتسبة وحدها لا تكفي وإن امتازت!!

في حالي العمل المهني أو العام، يتضح أن كل تقدم في المواقع القيادية لا ينبني على نسق واحد عبر المجتمعات أو البلدان ف”لكل مقام مقال” وقضية الاختلاف التمايزي بين مجتمعات العالم هذه نعود إليها بمكتوب آخر إن شاء الله. لكن يظل الجمع بين المعارف والمهارات اللازمة في التخصص الأساس وفي العموميات ذات الصلة أمر لا بد منه لضمان البقاء والتطور على كل حال!!


25 يوليو 2020

Related posts