أمامة الترابي تكتب …. بناء السلوك





بناء السلوك
أمامة حسن عبد الله الترابي

يجتمع البشر على أي مستوى رسمي أو عرفي فيضعون لأنفسهم قوانين وقواعد وأحكام تنظم سلوكهم في تفاعلاتهم مع بعضهم البعض ومع بيئتهم. تختلف القوانين ما بين قوانين وتشريعات رسمية ومكتوبة ولها منظومات إدارية ضمن أنظمة الحكم تقوم على تطبيقها ورعاية نفاذها وبين تراتيب وقواعد عرفية يعرفها الناس ويألفونها في مجتمعاتهم الصغيرة أو الكبيرة ويقوم عليها المجتمع كله إرساءً ورعايةً وتطبيقاً. لا يكاد أي قانون ما يخلو من إجراءات عقابية تقوم بتجريم بعض السلوكيات ومعاقبتها بما اتُفق عليه حتى لا ينتشر السلوك المحدد والمعيب في المجتمع المعين استناداً على فكرة أن العقوبة أياً كان شكلها هي رادعٌ للشخص الواقعة عليه وللآخرين حتى لا يفكروا في الإتيان بمثل فعله. لقد ظل أمر فاعلية وكفاءة الردع في القوانين العقابية أمراً شاغلاً للمنظومات التشريعية والعدلية خصوصاً في الدول التي استقرت فيها التعاقدات الإجتماعية والقوانين لفترات طويلة. تظل تلك الدول في مسائلة مستمرة لكفاءة تشريعاتها ووقوانينها من حيث أنها رادعة وتضمن قلة حدوث السلوكيات الإجرامية والمتعدية. ولو نظرنا من هذه الزاوية التي تصوب همها نحو المستقبل بحثاً في كيف نقلل من الجرائم وكيف نجعل السلوكيات المسيئة والمتعدية أقل جاذبية وبالتالي يتجه الناس نحو خلافها من سلوكيات إيجابية وبناءة، يمكننا أن ننظر للتشريعات والقواعد الإجتماعية والعرفية كمناهح تربوية وتقويمية للشعوب والجماعات ارتضتها لنفسها منذ القدم أو بالتعاقدات الإجتماعية الحديثة نسبياً أو باتباعها للشرائع السماوية التي تدين بها. وهنا تكمن قيمة البناء لأخلاق وسلوك الأفراد والمجتمعات وكيف يتم تحقيقها الأمثل.

المعلوم والسائد أن النشئ يتربى على مكارم الأخلاق وحب الحق والخير أو ربما خلافهم على يدي الأقربين ومن ثم الأبعد وبناءً على النسق الثقافي لأولئك الاقربين فالأبعد ومن نافلة القول أن العقود الإجتماعية الرسمية كالدساتير والتشريعات المتفرعة منها و العقود الإجتماعية العرفية- الأقوى غالباً- ما هي إلا تراكم تلك النسق الثقافية التي تحكم تربيتنا في شكلها الأشمل والأعم.
كثيراً ما جذب انتباهي تركيز القائمين على نص القوانين والنظم الرسمية على وضع الإجراءات العقابية “الرادعة” في مواجهة الجرائم والتجاوزات أو حتى الجنح او فلنقل السلوك المذموم في مجتمع ما. وكثيراً ما ينشغل الناس القائمين على أمر ما يمكن ان نسميه بالتربية والتقويم وإدارة سلوك الأفرارد والمجتمعات، حال اتفقنا أن القوانين في معناها الأشمل هي إجراءات تربوية وتقويمية بشكل ما، على كافة مستوياتهم بدءاً بالمدرسة والجامعة وانتهاءً بالحكومات المحلية والقومية بوصف السلوك السلبي وتسميته وتعيينه وتفصيل العقوبات عليه وصب غالب الجهد نحو تطوير وتفعيل تلك العقوبات حتى تؤتي أكلها بالردع الاتم! لكن العجيب هو أنه حالما تعارضت تلك القوانين أو الإجراءات الرسمية- التي غالباً ما يقوم على تفصيلها أهل العلم والمعرفة بالمصلحة العليا للمجتمع- مع الموروث والتقليد المجتمعي فحينها تظهر القوة الفعلية للأعراف والقوانين (غير المكتوبة) خصوصاً إن كان ما تسميه القوانين والتشريعات الرسمية تجاوزاً تعتبره المجتمعات عادة ذات قيمة مقدرة. تظل تلك المعركة قائمة بينما يراه الرسمي جرماً أو تعدياً أو سوءاً ويراه الأهلي أو الشعبي أو الموروث فضيلة وميزة وطالما استمرت المقابلة بين نسق يجرم الفعل ويجابهه بالإجراءات الإدارية والرسمية الجزائية والعقابية ونسق آخر يفضل الفعل ويعززه بالتمييز الايجابي في المجتمع تظل الكفة راجحة لصالح الذي يرى نفس السلوك إيجابياً ويعززه مقابل الذي يراه سلبياً ويحاربه.
من واقع تجربتي العملية والعلمية المتواضعة نسبياً في مجال السلوك، يظل المقبول و الإيجابي والمنمذج والمحبوب والمميز من سلوك راجح الحدوث، أما الإجراءات العقابية والجزائية والتي تركز على السلوك السلبي والمشين والمرفوض فربما تسهم في رد بعض الحقوق وإيقاع الجزاء على من استحقه بفعل ما ولكنها لم تجدِ كثيراً في تغيير سلوك الأفراد والمجتمعات من “سيئ” الي “حسن” وإن فعلت ففي مدىً ضيق ومحدود.
ومن هنا تبرز مسألة كيفية مساعدتنا لأنفسنا وصغارنا ومجتمعاتنا على أن تنتهج نهجاً صحيحاً وتجانب الخطأ والتجاوز المضر في سعيها في الحياة خصوصاً في حال تربية النشئ أو إرساء سلوك/ فعل صالح بديل عن المقابل السالب. إن انتهاج سبيل “الحرب” تجاه السائد من سلوك أو فعل مشين بتعريفه والحديث عنه ومقابلته بالإجراءات العقابية ربما يكون شر لا بد منه في ظرف ما ولكنه وواقعاً لا يجدي نفعاً كثيراً ولا يُعلّم شيئاً جديداً صالحاً ونافعاً للافراد والمجتمعات تستيعض به عن ذاك السئ المحظور.
إن معلمة ما قبل المدرسة التي تركز على أن تبدأ يومها بالحديث إلى تلاميذها عما هو إيجابي فيهم وفي بيئتهم وما تتوقعه منهم من سلوك طيب وتزجي مدحها المستمر لأيما سلوك أو فعل إيجابي لأحدهم هي بالطبع أوقع اثراً على عقول الاطفال وبالتالي سلوكهم حيث أنهم سصرفون تركيزهم وشغلهم نحو الإيجابي المتكرر أمامهم ويحاكونه ويأتون بكل ما هو محمود من سلوك للحصول على التمييز الإيجابي على العكس من تلاميذ آخرين في فصل آخر تبدأ معلمتهم يومها بالحديث عن المحظور والممنوع وما يمكن أن يحدث لهم من عقاب حالما اقترفوه وتظل تتذمر من الحال وتشكو تلاميذها الناشزين. وكذلك على مستوى المؤسسات ، فتلك التي تنكب على تعزيز ثقافة عمل إيجابية في المؤسسة ورقابة ذاتية وشبكية تُعلي من قيمة المُصيب أكثر من أنها تعاقب المخطئ بما فعل ستظل الاكفأ في عملها وإنجازها الخارجي والداخلي. أما على مستوى الدول فيمكننا أن ننظر لتلك التي تشرع قوانيناً مخصصة لتحارب بها الضار من العادات الموروثة فإن قوانينها تلك تظل مجرد إجراءات عقابية وجزائية ليس لها سند داعم في المجتمع ويظل يراها مجرد إجراءات يتعامل معها كشر لا بد منه بمحاولات التهرب وتجنب الوقوع في يد القانون أو ربما مواجهته كأمر واقع وتستمر المجتمعات في تقدير عاداتها الموروثة ولو سراً ولو قليلاً رغم تجريم القانون “الفوقي” لها.
لا شك أنه لا مناص من تحديد العقوبات القانونية والإجراءات اللازمة لإيقاع الجزاءات بصورة عادلة ونافذة في مجتمع ما ولكن روح الخير أو حتى التغيير في الأفراد والمجتمعات لا تُبنى إلا بالتركيز على الفعل الحسن والطيب وربما الجديد ويكون ذلك بتعريفه وعرض نماذجه وأشكاله وتعزيزها بالوعي والتعليم والإصلاح الإجتماعي ونشرها بالقدوة الحسنة والمثال الحي. إن الاجراءات العقابية، الرسمية خصوصاً، تظل قاصرة عن بناء الأخلاق وردع الشر لا يكون فعلاً إلا بإعلاء مناهج تعزيز الخير.
22 فبراير 2020

Related posts