أمامة الترابي، تكتب: المجتمعات الرافعة


بسم الله الرحمن الرحيم

 المجتمعات الرافعة

في أي مجتمع ما، يتباين الناس في مقدراتهم وسماتهم العامة بشكل واضح فضلاً عن التباين الآخر والضمني الذي تحدده معايير المجتمعات للتمييز بين أفراداها. رغما عن أن هنالك أشكال محددة من مقاييس التمييز تخص كل مجتمع وتؤثر على تقدم الأفراد فيه (التميز والحظوة)*، إلا أن هنالك معايير تكاد تكون قياسية وعابرة للتصنيفات الضمنية تلك، تجعل بعض أفراد المجتمع في مقام “أقل” عمن سواهم بشكل أو بآخر. في كل مجتمع تقريباً، نجد أفراداً يطالهم نوع من الاستبعاد ربما بسبب أعاقة أو تأخر ما أو وضع “شخصي” آخر كالأمراض المزمنة مثلا،ً ويظهر هذا الاستبعاد في صعوبة أو منع اندراجهم في المجتمع حتى على مستوى الخدمات الأساسية من تعليم وصحة مثلاً. تظهر كثير من هذه السمات التي قد تكون “معيقة” في مراحل مبكرة من حياة الشخص، فغالباً ما تؤثر سلباً على التعليم الأساسي والفرص الأولى للتعرف على المجتمع والاندماج فيه.

يكون التحدي الأساسي والبائن في مواجهة أي مجتمع، هو اعتبار أولئك الأفراد وموائمة الخدمات الأساسية المختلفة لتبلي حاجاتهم “المختلفة” وغير النمطية فينضمن لهم بذلك قدر معقول من الاندماج والتقدم الشخصي والإسهام في التقدم العام. فمن جانب آخر، وبالنظر لأي مجتمع تقريباً، نجد أن أولئك الأفراد الأقوياء ذوي السمات والمقدرات الاساسية التامة يكونون الأقدر على الاستفادة مما يُقدم لهم من خدمات فيتميزون على من سواهم وتفتح لهم الحياة سبلها بدون عناء وبالتالي فإن مجتمعاتهم تحتفي بهم إذ أنهم يمثلون نموذجاً لتقدم المجتمع بشكل أو بآخر. ضرباً للمثل، يمكننا أن ننظر للمؤسسات التعليمية التي تُعلي من شأن المتفوقين أكاديمياً فتؤسس نظمها على أن تسهل دخولهم إليها وتضمن بقائهم فيها وتتباهى بكونها مؤسسة حاضنة لتلك المقدرات العظيمة بلا شك. من ناحية تنافسية، يعد هذا أمراً طبيعياً وبسيطاً، “البقاء للأقوى”، ولكن أن أردنا النظر من ناحية عدالة إجتماعية وتقدم فعلي وتمييز نوعي، نجد أن مقدرة مؤسسة مجتمعية ما على استيعاب اولئك المستبعدين (بسبب إعاقتهم ربما) وتمكينهم من الاستفادة من الخدمات المتاحة وبالتالي تمكينهم من الاندراج ” الأمثل” في المؤسسة المعينة والمجتمع عموماً، هو ما يميز المؤسسات الرائدة والرافعة للكل على المؤسسات التقليلدية التي تنتبه للأقوياء وبالتالي هو ما يميز المجتمعات الرائدة التي ترفع من شأن جميع أفراداها بتوفير الفرص الأنسب لهم. وبالعودة لمثال المؤسسة التعليمية، فإن تلك التي تضمن مستوىً محدداً من المقاعد لدمج الطلاب من الأشخاص ذوي الإعاقة والتي تقدم برامج تعليمية (برامج تعليم خاص) مناسبة لهم وتمكنهم من إحراز الإجازات الاكاديمية أو ربما المهنية الأنسب لمقدراتهم وتضعهم على عتبات سوق العمل والدمج الإجتماعي، هي حقاً مؤسسات رائدة رافعة للأقل حظاً تعبر عما خلفها من مجتمعات تقدمت في مراقي التطور المادي والأخلاقي والعدالة الإجمتاعية.

قد نجد في بعض المجتمعات التقليدية ( الرائدة في سياقها) نوعاً من هذا التضمين والدمج الذي يوفر قدراً من الاعتبار الإيجابي للأشخاص المختلفين عن النمط والذين قد يعتبرهم العلم الحديث من ذوي الإعاقة. يظهر ذكاء بعض مؤسسات المجتمعات التقليدية والمحلية تلك في ما يقدمه المسيد في السودان مثلاً لبعض أولئك الأفراد فتُجعل لهم بعض المهام المناسبة وقد يعتبروا من الأولياء الصالحين ذوي الدعوات المستجابة وبالتالي ذوي المكانة والإسهام الإيجابي في نسقهم الإجتماعي المحلي.

لا شك أن كثير من المجتمعات الحديثة والمتمدنة نسبياً، تسعى نحو التقدم والتطور وتبني المعايير العالمية الملزمة برفع أفرادها الأضعف والأقل حظاً. فرعاية أولئك الأفراد الأكثر عرضة للاستبعاد يعود بفوائد جمة على المجتمعات حتى بالمقاييس الاقتصادية. إن مقدرة المجتمع على تضمين الأشخاص ذوي الاعاقة وتوفير الخدمات الأساسية لهم، يضمن قدراً معقولاً من الاستقلال عن الرعاية المكثفة الشخصية أو المالية ويزيد من فر ص حصولهم على فرص العمل فيسهم بالتالي في اقتصاد المجتمعات أو الأمم إسهاماً ايجابياً ويزيد من تقدمها في مصاف الرفاه الإجتماعي.

يظهر السؤال في كيفية تحقيق تلك المعايير التي توائم الخدمات المختلفة والأنشطة المتعددة لتضمن استفادة أولئك الأشخاص الأقل حظاً مما تقدمه مجتمعاتهم. من السهل والمباشر جداً أن يتبنى مجتمع ما (أو بلد ما أو حكومة ما) بعض القوانين والإجراءات الإدارية الرسمية التي تنص على حقوق أولئك الأفراد في الخدمات خصوصاً وأمام القانون عموماً، ولكن التحدي يكمن في قيادة التغيير الناعم الذي يجعل الوعي العام مستوعباً لأهمية التكامل بين أفراد المجتمع فتسود بين عامة الناس العقلية المتضمنة للجميع والتي لا تستثني أحداً والعادلة بين كل أفراد المجتمع على اختلافهم والرائدة في موائمة الخدمات والنشاطات لتستوعب أولئك الذين قد تتأخر بهم أو أوضاعهم الشخصية لتضمن إنفاذ ما هو مكتوب من إجراءات وقوانين ونصوص اتفق عليها أهل الحل والعقد!

*مقال التميز والحظوة

أمامة حسن عبد الله الترابي
8 اغسطس 2020

Related posts