أمامة الترابي، تكتب: الجذور والأجنحة

ظلت مسائل التربية والتنشئة تمثل الهم الأكبر للأسر ويشترك معها فيذلك الإهتمام الباحثين والعاملين في علوم التربية والإجتماع والنفس والسلوك منذ نشأة المجمتعات الحديثة والتعليم النظامي. لا شك أن لأساليب تربية النشء وما يترتب عليها من سلوك يسلكونه عندما يصبحون رجالاً ونساءً فاعلين في المجتمع أثر كبير على مستقبل الأمم وحظها من الإستقرار والنماء والتقدم أو عكس ذلك.

استوقفني مثل صيني قديم يلخص مسألة التنشئة والتربية في عبارة قليلة الكلمات وعميقة المعاني فيقول: “إن أفضل ما يمكن أن يمنحه الآباء لأبناءهم هو الجذور والأجنحة”. وفي أماكن اخرى متفرقة وجدت اقتباسات عديدة ربما تُرجمت بطرق مختلفة مفادها أن منح الأبناء الجذور العميقة والأجنحة الأقوية هوأحسن  فعل يمكن أن يقوم به الآباء أو الوالدين

وللشرح يمكننا أن نُرجع رمزية الجذور للإرتباط بالأصل والشعور بالإنتماء والمعرفة الحكيمة للذات والمنشأ ويُجمَل ذلك في الشخصية الواثقة المستقرة الثابتة على أصول طيبة أما الأجنحة القوية فهي الإستقلالية والإعتماد على النفس والمقدرة على الحركة الحرة بعيداً عن الحضن الأقرب والمهارات اللازمة لمجابهة الحياة والتعامل مع تقلباتها بفعل حسن.  قد تبدو الاستعارة التي تجمع الجذور العميقة الراسخة في الأرض للأسفل والأجنحة القوية المحلقة في الفضاء للأعلى بعيداً كأنها تمثل حالة تضاد وتنافر ولكنها في حقيقة الأمرتبين أن توفر الحالين هو بالضبط ما يضمن  نجاح وكفاءة الشخص ويجمع بين ثبات الشخصية وصحة النفسية من جهة و قوة حركة التفاعل وحسن السعي في الحياة من جهة أخرى.

حال اتفقنا على كفاءة المنهج أعلاه، وهو أن يسعى الوالدان خصوصاً والمربون عموماً لإعطاء الصغار الأصول الثابتة الراسخة والقوة المتحركة الفاعلة فإننا نواجَه بسؤال الكيفية. كيف تكون التربية بشكلها الكلي  معززة للشخصية ومانحة للحرية؟ من المهم  أن نذكر أن نفس الطرائق التي يجب أن يتبعها الوالدين لتعزيز الجذور وتعميقها هي نفسها اللازمة لتقوية الأجنحة وتدعيمها إذ أن الأمر لا تضاد فيه كما اسلفنا بل تكامل وتداخل. وفيما يلي سنستعرض أهم المناهج لأن مجال المكتوب لا يتسع للإحاطة الشاملة أو للتفصيل.

من أولى واجبات التربية الكفؤة وبلا شك هو بذل المحبة غير المشروطة بجنس الطفل أو شكله أو سلامته الجسدية والعقلية أو أي ميزات اختلافية. وهذه المحبة أهم ما تكون في المنشأ الأول ومن الحاضن الأول أو الحاضنين الأوائل ومن ثم تكون أهميتها بدرجة أقل على من هم دونهم في القربى وبعدهم في التعامل. وتتمثل المحبة للصغار في تعاملات شتى منها على سبيل المثال الاستماع المهتم لهم  وتمضية الوقت معهم  وملاطفتهم ومشاركتهم الاهتمامات والأنشطة المحببة والترفيه بل أن  مجرد النظرة الحانية أو المحبة أو المتفهمة تكون ذات قيمة عالية في بناء النفسية السليمة للأطفال.

وحيث أن إعطاء الكثير من التعليمات والأوامر للصغار أمر لا بد منه منذ الطفولة الباكرة فإن هذه التعليمات يجب أن تُعطى بصيغة الإيجاب ( “افعل هذا”بدلا عن “لا تفعل ذاك”) ويُراعى فيها هدوء النبرة ولطف اللهجة الذي لا ينتقص من الجدية. وبعد ذلك يأتي التحفيز اللازم لكل فعل إيجابي أو عمل صالح يقوم به الطفل ونؤكد هنا على ضرورة  شكرهم على الاستجابة أياً كان مقدراها أو شكلها ومدح مقدرتهم على بذل الجهد حتى وان لم تكن النتائج المرجوة قد أُنجزت كما يجب. وفي حال فشلهم فإننا نمدح أي فعل إيجابي منهم ولو كان زهيداً قبل أن نبدأ بتعيين الخطأ والحديث عنه (دون امتهان للنفس أو الجسد). و لابد أن نذكِّر الصغار دوماً بأن الخطأ هو درس مستفاد للمستقبل وليس نهاية الأمر . ومن هنا ننتقل لأهمية التشجيع عموماً ومخاطبة الأطفال بالعبارات التي تؤكد مقدرتهم على الإنجاز ومدى محبتنا لهم وثقتنا فيهم وتوقعاتنا الجيدة لما سيفعلون في الحال أو في العموم.

أما فيما يتعلق بخلاف الأمور التي تستوجب توجيه  الأمر الواضح ( التعليم والتأديب) فإنه من المهم إعطاء الأطفال مهام تناسب قدراتهم منذ عمر مبكر و تتوزع تلك المهام بين خدمة أنفسهم وخدمة الآخرين بدءاً من الأسرة ومن ثم المجتمع الصغير. وفي حال ما يخص اولئك الصغار من شؤون،  فإن من الأوجب إعطائهم الخيارات كلما أتيح ذلك فلا يُفرض عليهم خيار المربي/ الوالد في  أي فعل أو أمر إلا في الإطار العام والكبير ولا شك أن المسئولية والحرية متلازمتان فلا تطغى احداهما على الاخرى فتقعد بالشخص للاسفل أو تدفعه بعيدا نحو الخطر والرعونة.

يجب أن نتذكر دوماً أن التربية والتنشئة والتعليم عمليات متكاملة ومشتركة فلا يصلح فيها جانب دون الآخر ولا يقوم بيها طرف دون الآخر. إن صلاح الشخصية والاستقرار النفسي لا تقل  أهميتهم عن اكتساب المهارات العامة أو المتخصصة والإنجاز في الحياة العامة وكذلك فإن دور الأسرة المباشرة (الوالدين) وإن عَظُم ففعله لا يكتمل إلا مع المدرسة والمجتمع الصغير والكبير!


28 مارس 2020

Related posts