يوسف عمارة أبو سن :الأمن المائي بين أقلام المخابرات وإدارات الري

الأمن المائي بين أقلام المخابرات وإدارات الري

يوسف عمارة أبوسن

الأسبوع الماضي قامت إدارة المساحة العسكرية بالقوات المسلحة بوضع يدها على مركز الدراسات ونظم المعلومات بوزارة الري ، أثار هذا التصرف ردود فعل إعلامية مقدرة ، وقد صور جُل متناولي الموضوع على أن هذه الخطوة تعد جزءا من مشروع طغيان الشق العسكري من السلطة على مفاصل الدولة ، كما أعتبر مدير المركز عبد الرحمن صغيرون أن ذلك يعد ( تجاوزا غير مسبوق وخطيرا باعتبار أن المركز وحدة مدنية ) وقد أبدى وزير الري الدكتور ياسر عباس إنزعاجه من هذا التصرف ..
تم إنشاء المركز المذكور في العام 2005 كهيئة فنية تتبع لوحدة تنفيذ السدود ، وبعد سقوط نظام البشير أتخذ النظام الجديد إجراءات لهيكلة وحدة السدود ، فتم ضم المركز لإدارة التخطيط والمشروعات بوزارة الري والموارد المائية ، ويتولى المركز إعداد الدراسات للسدود والمشاريع الزراعية في السودان (العاملة والمحتملة) بالإضافة لوضع بيانات تخريط المساحات الزراعية وقياس صلاحية التربة ومستوى توفر المياه ، كما أن المركز يمتلك قراءات ومعلومات تفصيلية عن المياه الجوفية وحجم مياه الروافد ومعدلات سقوط الأمطار وحساب المهدر منها والوارد لنهر النيل ، وكذلك يشرف المركز على مشروع (حماية وتطوير بيانات الموارد المائية) والذي يشمل منظومة البيئة الافتراضية لتخزين ومعالجة البيانات ، ومنظومة جمع البيانات بواسطة المسح الجوي عبر طائرات الدرون ..
بقراءة المهام أعلاه يمكنك بكل سهولة أن تصنف المركز بأنه يؤدي مهاماً إستراتيجية ترتبط إرتباطا وثيقا بالأمن القومي للبلاد في شقه المائي ، وقد يعتبر البعض خبر ضم إدارة من الري للقوات المسلحة عاديا لكن الأمر يكون معقدا حين تكتشف طبيعة المهام وخطورتها ، فلو علمت أن الصراع المقبل بين الدول هو صراع مياه بلا شك ، ولو علمت كذلك أن النزاع بين إثيوبيا ومصر حول سد النهضة قد وصل لمراحل متقدمة ، حينها ستعرف أن خطوة صغيرة وعادية مثل هذه ربما تكون ضربة موجعة تحت حزام جهاز مخابراتي عتيق وعتيد في المنطقة ..
أنتبه المصريون لمسألة مياه النيل مبكرا ، فتم توقيع إتفاقية النيل 1929 مع بريطانيا التي تنص علي منع إقامة أي مشروع علي النيل أو أي من روافده أو البحيرات التي تغذيه إلا بموافقة مصر ، وتنص كذلك على أحقية مصر في الرقابة علي طول مجري النيل من المنبع الي المصب ، وقد وقعت بريطانيا هذه الإتفاقية مع مصر بصفتها ممثلا لشعوب (السودان ، تنزانيا ، يوغندا ، كينيا ) ، ومنذ ذلك الوقت أنشأت مصر وحدات لرقابة مياه النيل على طول مجراه ، فكان الري المصري في السودان والكونغو ويوغندا وكينيا ولاحقا في جنوب السودان ، فظل المصريون يراقبون شق الترع وتفريع القنوات ويسجلون المناسيب ويتحكمون في مياه النيل قبل اتفاقية 1959 وبعدها ، لدرجة أنه عندما ارادت يوغندا إنشاء (خزان أوين) علي بحيرة فيكتوريا في العام 1953 وقعت مع مصر إتفاقا لتنفيذ الخزان الذي نُفذ وعين له مديرا مصريا ولا زال يتم تعيين مديره حتى اليوم من قبل وزير الري المصري بالقاهرة ، بعد اتفاقية 1959 فكر المصريون في طريق آخر لضمان سريان شروط الإذعان الإستعمارية على دول حوض النيل ، ليقوم صلاح نصر في العام 1963 بتعزيز وجود المخابرات العامة داخل وحدات الري المصري العاملة خارج القطر بإعتبار أن مياه النيل (قضية أمن قومي) مصيرية وحيوية لمصر ، وهذه الخطوة الإستراتيجية المصرية جعلت المعلومات عن مياه النيل ومناسيبه يتداخل فيها الفني والإستخباري ، ما يجعلنا في السودان بحاجة ماسة لقراءة جديدة للنيل ، لأنه طوال الفترة التي سبقت إنشاء (مركز الدراسات ونظم المعلومات موضع الجدل) في العام 2005 ظلت إدارة الري المصري بالخرطوم هي مصدر كافة المعلومات الواردة عن النيل لوزارة الري ، لتتحقق بعد إنشاء المركز الإستقلالية الكاملة في مصادر المعلومات عبر التدفق اليومي للبيانات وتغذية مستمرة للأنظمة من مصادر تقنية وأخرى تعتمد قياسات الكادر البشري ، ليوفر المركز في العام 2011 خارطة كاملة عن مياه ومناسيب النيل من الهضبة الإثيوبية حتى الحدود السودانية المصرية .
إذن الأشياء ليست هي الأشياء كما تبدو ، وما تم من إلحاق للمركز بمؤسسة القوات المسلحة هي خطوة إستراتيجية تصب في ضمان تحقيق الأمن المائي والحد من مهدداته كعنصر من عناصر الأمن القومي الضامنة لإستقرار البلاد والمحققة للإستغلال الأمثل لمواردها ..

Related posts