عبد الله مكي يكتب: الإسلام السياسي وتحديات ما بعد الإستعمار …حسن الترابي نموذجاً (5)

سيرة الترابي بين التقليد والحداثة

النشأة والميلاد والتعليم والخيارات الفكرية والسياسية، تكون للبيئة الخاصة (الأسرة) تأثير كبير فيها، وكذلك البيئة العامة (المجتمع وسلطته ونشاطه). فالشيخ حسن عبد الله الترابي وُلد في شرق السودان في مدينة كسلا في العام 1932، أي بعد (34) عاما من الحكم الإستعماري للسودان، وقبل الإستقلال بـ(24) عاماً.

كان والده الشيخ عبد الله دفع الله الترابي من أوائل القضاة الشرعيين في البلاد وأطلق عليه ابنه الشيخ حسن مصطلح (الأفندي المضاد) نسبة لتمسكه بقضايا الشريعة والشرع فيما يحكم من قضايا ومنازعات عامة وشخصية، وما ذابت شخصيته في دوامة أفندية الدولة الحديثة، بزيهم وأنديتهم وأخلاقهم وعزلتهم من مجتمعهم، بل وترفعهم عنه، وذلك حسب إفادة الدكتور عبد الله علي إبراهيم في توثيقه لسيرة حسن الترابي بعنوان: (لاهوت الحداثة: حسن الترابي والتجديد الإسلامي في السودان).

ويقول عبد الله علي إبراهيم في توطئته لهذه السيرة: ” ينحو رواة سيرة حسن الترابي، زعيم التجديد الإسلامي في السودان، للنظر إلى (أصوليته) على أنها تعبير عن التقاليد الدينية لآل الترابي: وهم سلالة متصوفة، مهدويون، فقهاء ورجال دين، بذخت دوحتهم في القرن السابع عشر. وهذه النظرة تحجب عن الناظر سياسات مفكر مفلق عظيم القدرة على الاستجابة إلى التغيير وإحداثه “.

ويقول عبد الله علي إبراهيم إنه إنما يسعى في هذه المادة: ” إلى تحميص أفكار الترابي الدينية بوصفها(لاهوتاً للحداثة) تضمن معالجة ثرّة للتقليد والحداثة “. ويُؤكد أن الترابي طوال سيرة حياته انصب تركيزه: ” على مفهوم الابتلاء – أي امتحان الله عز وجل لعقيدة وإيمان عباده – لابتناء نسق من العبادة يليق بزمان الاختراعات التكنولوجية المذهلة، والحراك الإنساني، والتواشج الوثيق هذا. وبافتراع الترابي للاهوت يتصدى بتقاليد ضاربة في القدم لتحديات العالم المعاصر، فإنه ينقض بذلك دعاوى عدم صلاحية الاثنين – التقليد والتحديث – لبعضهما البعض “.

ويُؤكد ذات المعاني الأستاذ المحبوب عبد السلام في ورقته (المدرسة الترابية) والتي قدمها في  المؤتمر العلمي الأول حول: ” الإسلاميّون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتجاهات “، وكانت تحت عنوان:  المدرسة الترابية بين الفكر والسياسة وبين السودنة والعالمية الاسلامية : التجربة والمصائر. والتي أقامها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالعاصمة القطرية الدوحة في أكتوبر 2012م. حيث بسط الأستاذ المحبوب سيرة الشيخ حسن الترابي الذاتية مع أفكاره النظرية وتجاربه العملية. حيث يقول في هذه النقطة:

” كان والد الشيخ حسن الترابي الشيخ عبد الله دفع الله الترابي موظفاً في الإدارة الاستعمارية البريطانية، وبالتحديد كان القاضي الذي يحمل الرقم إثنين في سلك القضاء الشرعي الذي أسسته الإدارة الاستعمارية في السودان، فإذ كان الوالد موظفاً رسمياً فهو في ذات الوقت عالم شرعي، تيسر له ان يدرس العلوم الإسلامية التقليدية ويستوعب نحو العربية وصرفها وبرع في متون الفقه والحديث واجاد حساب الفرائض والميراث وغير ذلك مما يحيط بذلك المجال. تحفزه شخصية ورعة صارمة الورع ويعينه عقل حاد محافظ في حالة نادرة أخرى “.

وتيسر إذاً (للترابي الطفل) – حسب تعبير أستاذ المحبوب –  أن يدرس العلوم الإسلامية التقليدية مباشرة على يد والده (الفقه والنحو والعروض)، وكان طالباً مجداً يدرس ريثما تنتهي العطلة.  وكذلك التحق بالمدارس الحديثة التي أسسها الإستعمار (الإدارة البريطانية) ليدرس فيها الحساب والجغرافيا والعلوم والتاريخ ثم اللغة الإنجليزية.

وتعرف حسن الترابي الطالب على غالب أهل السودان، واستفاد من كون والده كان موظفاً، فيُنقل من منطقة لأخرى، فمن كسلا شرقي السودان حيث كانت (لحظة الميلاد)، إلى بلدة النهود في غرب كردفان حيث درس أول مراحل التعليم الإبتدائي، وكذلك إلى مدينة الدمازين (عاصمة ولاية النيل الأزرق) ليكمل عدداً من سنوات المرحلة الإبتدائية، ثم دراسة المرحلة الوسطى في حنتوب شرق مدينة ود مدني بوسط السودان، وذلك بعد بضعة سنوات قضاها بمعّية الوالد في أقصى الشمال عند منحنى النيل في مدينة (أبوحمد) .

وفي ضاحية حنتوب نفسها درس المرحلة الثانوية، وهي من ضمن مدارس ثانوية في السودان تُعد على أصابع اليد الواحدة ومنها (خور طقت، ووادي سيدنا). ودرس الترابي ثلاثة أعوام فقط مختصراً العام الرابع، وأحرز نتيجة عالية تربع بها على عرش الشهادة السودانية، مؤكداً تفوقه الأكاديمي، والذي تواصل معه حتى جامعة الخرطوم في مرحلة البكالاريوس، والماجستير في جامعة لندن والدكتوراة في جامعة باريس.

    وكان الخيار للترابي بين كلية الطب وكلية القانون فاختارالأخيرة ليحسم مسار تخصصه الأكاديمي, متسقاً بذلك مع مساق استعداداته واهتماماته ومع التعليم المكثف الذي زوَّده به والده، قائلاً في إحدى الحوارات الصحفية: (بالرغم من أن الطب مهنة إنسانية، إلا أن القانون سيتيح له أن يكون قريباً من المجتمع وكذلك سيربطه ببقية العلوم (السياسية والإجتماعية والإقتصادية والعلاقات الدولية).

   وتعليقا على ذلك يقول المحبوب عبد السلام: ” وكما حسمت الجامعة مسألة المسار الأكاديمي والمهني، حسمت تلك المرحلة مسألة إنتمائه السياسي حيث التزم عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، في ذات الفترة التي حسمت فيها على المستوى الوطني العام أهم قضية وطنية شهدتها تلك الفترة والتي تلخصت بين بقاء السودان موحداً إلى مصر أو الإستقلال بلداً كامل السيادة، ضمن مسار مضطرب إنتهى بإعلان السودان بلداً مستقلاً عن بريطانيا وعن مصر في يناير 1956م “.

والشيخ الترابي لا يرهن نفسه لبلد أو مذهب أو للغة أو للهجة، ولقد رأينا من سيرته كيف تنقل بين مناطق السودان المختلفة، وكذلك نال الماجستير من (العالم الأنجلو ساكسوني) في لندن، وشهادة الدكتوراة من العالم المقابل لهم مباشرة والمتباين معهم لغة وثقافة وتاريخاً، فكان أن نالها من (العالم الفرانكفوني) في باريس.

ولم يكتف بالعربية والإنجليزية والفرنسية، بل أضاف إليها في وقت مبكر اللغة الألمانية، ليُضيف إليها لاحقاً الأسبانية وعدد من اللغات الأثيوبية وقليل من الصينية، بالإضافة للغات السودان المختلفة ولهجاته المحلية. وله رأي في ذلك ووجهة نظر.

فقد أورد الأستاذ عمر عبيد حسنة في مقدمة كتاب الأمة (فقه الدعوة: آفاق وملامح) الجزء الثاني العدد(19) في حوار مع الشيخ حسن الترابي، بعنوان: (الإنتقال من المبادئ إلى البرامج)، يقول الشيخ حسن الترابي :

” حرصت على تعلم الفرنسية لأطلع على الحضارة الفرنسية من مصادرها الأصلية ولأدرس كسبهم النظري في القانون، فهو أوسع مما عند الإنكليز، وتعلمت الألمانية لأول الأمر لأقف على مكتوبات الألمان في الفكر الديني والفلسفي، ولهم في ذلك باع طويل.. وحبّب إلي من تعمقي مبكراً في علوم العربية، ومن كسبي للنظر المقارن في اللغات أن أعكف على كل لغة أو لهجة تواتيني الظروف لتعلمها، فإن في توسيع الأسماء والأفعال بلغةٍ سعةً للعقل “.

Related posts