عبد الله مكي يكتب : الإسلام السياسي وتحديات ما بعد الإستعمار… حسن الترابي نموذجاً (4)

مفهوم الحاكمية

من أبرز هذه المفاهيم والتي أثارت جدلاً واسعاً في العالم العربي والإسلامي (مفهوم الحاكمية)، والذي طرحه عدد من المفكرين الإسلاميين، وتلقفته بعض الحركات الإسلامية، وجعلت منه محوراً وهدفاً لمواجهة النظم السياسية القائمة.

ولكن السؤال هو: ماذا يعني (مصطلح الحاكمية)؟ وكيف يتم تحديد هذه المفهوم وتأصيله وتجذيره في أرض الواقع السياسي؟ وما مدى ملائمته لظروف المنطقة العربية والإسلامية الراهنة؟

يرى البعض أن مفهوم الحاكمية مفهوم إسلامي له أصوله وجذوره، كما يوضح ذلك هشام أحمد عوض في كتابه (الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية: رؤية معرفية) حيث يقول: “فثمة اتجاه يرى أن هذا المفهوم إسلامي يُعبر عن جوهر النظرية الإسلامية السياسية والقانونية، وأنه يجد جذوره في الأصول المنزلة والتراث الإسلامي”.

وهذا الكلام هو رد على الذين يربطون نشأة مفهوم الحاكمية بالمودودي في الهند وباكستان، وسيد قطب في مصر، يقول هشام أحمد عوض: “وأن دور أبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، لم يكن إلا كشفاً لمفهوم أصولي موجود، وذلك حينما وجدت البيئة التي يتعين تنزيل هذا المفهوم عليها والواقع الذي يتعين حكمه بمضمون هذا المفهوم”.

ويرى اتجاه آخر أن مفهوم الحاكمية ليس مفهوماً أصولياً وإنما طرحه (الخوارج) اعتراضاً على واقعة التحكيم بين علي ابن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان، ثم أعاد المودودي طرحه مرة أخرى في العصر الحديث. وأنه يجب أن يُفهم في إطار وضعيته وظروفه السياسية والإجتماعية التي عاشتها شبه القارة الهندية.

حاكمية الله !

الأستاذ عمر عبيد حسنة في مقدمته لكتاب الأمة (الحاكمية في الفكر الإسلامي) يتحدث بوضوح عن معنى حاكمية الله فيقول: “وحاكمية الله هي الإلتزام بقيمه في الحكم والتعامل والسلوك وممارسة الأنشطة الحياتية السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وهي لا تعني بحال تعطيل وإلغاء الإنسان واختياره، فهي ليست قدرية معطلة، وإنما هي قيمة محركة فاعلة للإنسان، الذي ناط به الله الإجتهاد وإصدار الأحكام”.

بينما صاحب الكتاب ومؤلفه حسن لحساسنة فله تعريف لهذه الحاكمية، فيقول: “فالحاكمية قد يُراد بها حاكمية الله (الحاكمية الإلهية) وقد يُراد بها حاكمية الوحي (الحاكمية الشرعية) وقد يُراد بها حاكمية العقل (الحاكمية الإنسانية)”.

وأخطر شيئ لازم مفهوم الحاكمية هو الربط بين مفهوم الحاكمية ومبدأ الألوهية، بحيث يصبح المصطلح مركباً بهذه العبارة (الحاكمية الإلهية) وهو – للأسف– شائع في الفكر الإسلامي، فلا تطلق الحاكمية إلا ويُراد بها حاكمية الله تعالى يقول حسن لحساسنة: “والعبارة لها معانٍ لغوية متعددة ودلالات اصطلاحية مختلفة، وليس هناك ما يدل على الإرتباط التلازمي بين المبدأين إلا في القضايا التي لها تعلق بمبدأ الألوهية”.

المودودي وسيد قطب

ولكن من أين جاء أبو الأعلى المودودي وسيد قطب بمصطلح الحاكمية؟ خاصة إذا علمنا أن الحاكمية بوصفه مصدراً صناعياً لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ولا حتى في كلام المتقدمين، ويُؤكد حسن لحساسنة: “هذا المصطلح ابتدعه المودودي في مرحلة سياسية حرجة كانت تمر بها الدعوة الإسلامية في الهند، وخلال مرحلة التأسيس لدولة الباكستان، فهو أول من ربط بين مفهوم الحاكمية ومبدأ الألوهية في التنظير السياسي، فالربط في أصله كان أساسه النظر والإجتهاد الذي قد يعتريه الخطأ والصواب”.

ويطرح سيد قطب نفس فكرة الحاكمية كما طرحها المودودي، فإذا كان المودودي قد طرح فكرته في إطار مشروع تأسيس دولة الباكستان الإسلامية وصياغة دستورها وإعطاء البدائل السياسية والقانونية والدستورية للنظريات الغربية، فإن سيد قطب، كما يقول حسن لحساسنة: “قد طرح فكرته في إطار مواجهة ما يُسميه بـ(الجاهلية المعاصرة) التي كانت تدعمها الدولة في مصر، ويمكن القول إن حاكمية قطب كانت رد فعل على تجربة الدولة الوطنية في مصر وعلى الدولة الناصرية بشكل أخص”.

محمد عمارة والمودودي

وتحت عنوان (الحاكمية والديمقراطية في فكر المودودي) كتب محمد عمارة عن جاذبية وتأثير الأستاذ أبو الأعلى المودودي في الحركة الإسلامية المعاصرة وفي أطروحاتها الفكرية، فيقول: “ولقد كانت نظرية الحاكمية من أبرز القضايا التي أثارها فكر المودودي، ولا يزال حولها الكثير من الجدل واللبس والغموض، كما كانت ولا تزال من أكثر الأطروحات الفكرية التي تفعل فعلها في صفوف الإسلاميين”.

ويُؤكد عمارة أن المودودي هو الذي وطّن مصطلح الحاكمية في العصر الحديث: “ولقد قيل – وهذا حق – إن المودودي قد ارتاد الدعوة إلى نظرية الحاكمية في عصرنا الحديث، إذ لم يسبقه إليها أحد من أعلام الصحوة الإسلاميةالحديثة. فأحيا الدعوة التي بدأها (الخوارج) في صدر الإسلام عندما أعلنوا أنه(لا حكم إلا بالله)”. وقيل إن الرجل قد شدّد على اختصاص الحاكمية بالله (الحاكمية القانوية) أي حاكمية التشريع، و(الحاكمية السياسية) أي حاكمية التنفيذ”.

أبو القاسم حاج حمد والحاكمية

ومن الذين تناولوا فكرة الحاكمية المفكرالسوداني محمد أبو القاسم حاج حمد، وأصدر كتابا سماه (الحاكمية) وعلق فيه على كل المجهود النظري في موضوع الحاكمية، فيقول: “قد لاحظنا منذ البدء أن الذين طرحوا الحاكمية الإلهية بالمنطق الجبري اللاهوتي قد طرحوها كنقيض مكافئ لحاكمية البشر العلمانية، ومن هؤلاء المفكر الإسلامي الباكستاني أبو الأعلى المودودي (1903 – 1979) والمفكر الإسلامي المصري سيد قطب (1906 – 1966) إضافة لكتاب آخرين تأثروا بذاك أو بهذا”.

وأشار حاج حمد إلى أن الكتابات ليست بالضرورة تحت مسمى الحاكمية الإلهية، فبعض الكتاب يتحدث عن جاهلية القرن العشرين، وعن تكفير المجتمعات المسلمة، والهجوم على كل ما هو غربي. وعلق على الذين نقدوا مفهوم الحاكمية بقوله:

“وكذلك الذين نقدوا مفهوم الحاكمية الإلهية من المفكرين الإسلاميين إنما نقدوا كيفية فهمها لدى الحركات الأصولية التي نعتوها بالتطرف والمغالاة واستلاب دور الإنسان. وهذا موقف الإمام علي بن أبي طالب بوجه الخوارج حين التحكيم في معركة صفين وذلك حين نادوا بأن (لا حكم إلا لله) فردّ عليهم بأنها كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير برٍ أو فاجر”.

العلواني وحاكمية القرآن

وهناك طرح مختلف لمفهوم الحاكمية ربما يقترب من مفهوم الحركات الإسلامية الحديثة للدولة، ألا وهو (حاكمية القرآن أو الكتاب)، وقد طرحه الدكتور طه جابر العلواني مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن حتى وفاته في 2016.

وبعد استعراضه الآيات والأحاديث الواردة في شأن الحكم لله ومعنى النبوة والخلافة يقول العلواني في كتابه(حاكمية القرآن):

“من الصعب أن يطلق القول بأن هناك حاكمية سلطوية في الإسلام تقوم على هيمنة مطلقة لله أو لنبيه باسمه أو لخلفاء نبيه باسمه أو باسم شرعه”.

ويعتبر العلواني – بهذا الفهم – أن الحاكمية قد آلت إلى كتاب الله بدلاً عن (الحاكمية الإلهية) أو النبوية أو حاكمية الخلفاء، فيقول:

“إذاً هي حاكمية كتاب أنزله الله – جل شأنه – ينفذ الإنسان المستخلف أياً كان نسقه الحضاري أو نمطه الثقافي أو مجاله المعرفي ما يأتي به من توجيهات لتحقيق الهدى وإظهار الحق والفصل بين الناس”.

وحاكمية الكتاب هذه لها ميزات تجعلها غير متطابقة مع الحاكمية الإلهية، ففي حاكمية الكتاب يكون الإنسان مسؤولاً عن متطلبات ومستلزمات وتوفير سائر الضمانات التي تقتضيها القيم العامة المشتركة بين البشر، وهذا ناتج عن عدم احتكار تفسير نصوص الكتاب وعدم وجود طبقة تحكم باسم الإله.

المودودي وفخ المصطلحات الغربية

ويلخص الباحث محمد نور مبارك في كتابه (مشروعية سلطة الدولة في الفكر الإسلامي) فكرة الحاكمية في الإسلام كما أوردها فهمي هويدي وجمال عطية.

“ويرى فهمي هويدي أن الحكم لله قول صحيح، ولكن بالناس وللناس في حقيقة الأمر، ويرى أن المودودي قد وقع في فخ استخدام مصطلحات غربية بخلفيات التجربة الغربية، والتي تضر كثيراً إذا وضعت في سياق إسلامي، مثال (الثيوقراطية) التي كانت مرتبطة في الأذهان بصيغة التحكم في البشر باسم الله”.

أما جمال عطية فيقول: “فالحكم أو السيادة أو الحاكمية أو غير ذلك، من المصطلحات التي تحتاج إلى إعادة نظر وتحديد، فالحكم أصلاً لله، والناس مستخلفون عن الله لعمارة الكون، وإقامة شريعة الله، وعليهم لتنظيم أمورهم أن يتخذوا بينهم أميراً أو خليفة أو رئيساً، كما يجعل تسلسل السلطة في نظر الإسلام : الله، الأمة، الحاكم”.

الحاكمية والسيادة عند الشيخ الترابي

أما الشيخ حسن الترابي فيفرد لهذه المصطلحات كتاباً كاملاً (المصطلحات السياسية في الإسلام)، فيرجع المصطلح لأصله اللغوي ودلالته الإصطلاحية، ومصدره في الإنجليزية واستعماله في الواقع حيث يضيق ويتسع المعنى حسب أفق المجتمع.

فالحاكمية أوردها تحت مصطلح الحكم، فقال فيها: “و(الحاكم الأعلى) هو الله – سبحانه وتعالى – وإنما يحكم المؤمنون به المستخلفون في الأرض بما شرع هو وأنزل، فإليه ترجع الحاكمية العليا. و(الحاكمية لله) عبارة روجها حديثاً أبو الأعلى المودودي وسيد قطب ودعاة التوحيد والتوبة بالحكم إلى الدين وبالسياسة إلى العبادة أصل الإسلام لله”.

ثم عرّج الشيخ الترابي لتعريف مصطلح السيادة بعد أن سرد بعده التاريخي، وكيف أن المصطلح كان يعني: “علوية سلطان كانت في أوروبا منذ القرن السادس عشر للملوك، فوق أمراء الإقطاع – النبلاء المتمكنين فوق الرعية”. وفي تطورات النظم السياسية – لا سيما بعد الثورة في فرنسا وأمريكا – “أصبحت السيادة للشعب الثائر الغالب في فرنسا، ولمجلس نوابهم (مجلس التداول الأعلى أو(البرلمان) في إنجلترا، وللدستور ونصه في أمريكا”. والكلمة – أي السيادة – بعد انحسار الإستعمار، كما يقول الترابي: “أصبحت صفة للدولة المستقلة جملة، وإن كانت العولمة تزحف الآن على سيادة الدول لجهات تجمع الأمم أو بعض الدول أو لجهة ترجح على بعض الدول بأثرها”.

ولكن الترابي مسكون بتبيئة المصطلحات في الرؤية الدينية التوحيدية، وفي هذا يقول: “ولعل الأوفق في السياق الديني أن تكون عبارة (السيادة المطلقة) لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه تعالى السيد الأعلى، والصفة معروفة لله في العربية، وإن لم تكن شائعة في الفقه السياسي. والله – سبحانه – السيد الأكبر هو الذي يستخلف بقدره من يشاء من الأقوام والشعوب ليسود عليهم بشرعه في أحكامهم مؤمنين، إذا لم تسد فيهم أهواءهم الوضعية كافرين، أو ساد بعضهم على بعض بصراعات القوة وشهواتها مشركين ملحدين بالله”. و(دستور 1998 )والذي يُعتبر ثورة في الفكر الإسلامي الحديث، صبّ فيه الشيخ حسن الترابي عصارة تجربته وخبرته السياسية والقانونية، فيقول في المادة 4 واسمها (الحاكمية والسيادة): “الحاكمية في الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف، يمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والحرية والشورى، وينظمها الدستور والقانون”.

والشيخ الترابي  في كتابه(السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع) يُعنون الفصل الثالث بـ(المجتمع المؤمن مصدر السلطان)، حيث يُفصّل رؤيته حول الحاكمية وترتيب العلاقة بين (الله والأمة والحاكم) وذلك بقوله :

“إن السلطان يرجع إلى المجتمع مباشرة أو من خلال تفويض، ووراء قرار المجتمع بالطبع إيمان وانفعال بالشريعة الحاكمة بهديها، كما تتحرك كل إرادات البشر بمذاهبها وضعية أو شرعية، ووراء المجتمع علماؤه بدقائق الشرع وحقائق الواقع. ووراء جملة المجتمع أفراد مؤمنون، عند كلٍ ترتفع حجة الشريعة على شورى الأرض وإمارتها. فإذا خالف السلطان الأرضي ما هو صريح وقطعي لا اجتهادي متروك لسلطان الخلف، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وحكم الله أساس التدين فوق حكم السلطان الظاهر، إلا فيما هو لاجتهاد البشر فلا حجة عندئذ لشعار الخوارج (لا حكم إلا لله)”. 

Related posts