عبد الله مكي يكتب: في الذكرى 22 لقرارات الرابع من رمضان… مشاكل الإنتقال بين المجتمع والتنظيم والدولة

وثورة الإنقاذ الوطني على أعتاب إكمال عقدها الأول، وتحديداً بين عامي 1998 و1999، والوضع أكثر استقراراً سياسياً واقتصادياً (والسودان من أوائل الدول في نسبة النمو، بل ويصبح من المصدرين للنفط، والدولار الأمريكي بجنيهين فقط)، وكذلك سيطرت عسكرياً على كل الجبهات – رغم كثرتها، وقيادات الحركة الشعبية توافدت للخرطوم معاهدة ومصالحة بل وتسنمت مواقع سياسية وسيادية في نظام الخرطوم (رياك مشار، لام أكول أجاوين، كاربينو كوانين، أروك طون أروك، فاولينو ماتيب، تعبان دينق، وغيرهم).

في هذا التوقيت يمور حراك تنظيمي وفكري واستراتيجي بين تنظيم الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ حسن الترابي، وبين دولة الإنقاذ برئاسة المشير عمر البشير، وتُطرح قضايا الحريات والحكم الإتحادي وانتخاب الولاة، وحرية الصحافة، والتداول السلمي للسلطة، وتحديد أجل الولاية العامة (حتى للرئيس نفسه).

فيتم إجازة كل ذلك داخل التنظيم – وإن كان بصعوبة بالغة – ليظن أهل التنظيم أن سلطتهم حاكمة وماضية على دولتهم، والتي صنعوها بأيديهم وعلى رأسها وإدارتها (نفر كريم) من إخوانهم في الدعوة والحركة وخنادق الجهاد وساحات الجامعات وغيرها.

ولكن كانت المفاجأة الكبرى أن تمنعت الدولة على التنظيم، وبدأ الصراع الذي كان (سرياً) يظهر في العلن بين قوة الدولة وسلطة التنظيم، وكذلك توازنات القوى في الإنتقال من التنظيم إلى الدولة، ومن الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية.

ويتساءل كثيرون – خاصة من عضوية الإسلاميين – لماذا لا تريد الإنقاذ أن تستمر عسكرية كما بدأت أول مرة؟ أليس لها الآن ملك السودان وأنهار النفط تجري من تحتها؟ والدولارات تتدفق من فوقها ؟

وهنا تظهر مفارقة الفكرة والمبدأ، والتنفيذ والتطبيق، والتقريب بين (المثال المطلق) و (الواقع النسبي)، وصراع مراكز القوى داخل التنظيم والدولة خاصة بعد تصدير البترول وإنشاء بنية تحتية من جامعات ومدارس ومستشفيات وطرق وكباري ومشاريع الكهرباء، وغيرها من المشروعات التي شملتها الإستراتيجية القومية الشاملة (1992 – 2002) وواضح أنها سترى النور ويتم تنفيذها بالكامل وزيادة بعد ضمان تدفق الأموال.

التنبه للمشكلة مبكراً

قبل (29 سنة)، وفي العاشر من مايو 1992م، عُقدت ندوة برعاية (مركز دراسات الإسلام والعالم)، ولجنة الدراسات الشرق أوسطية، بجامعة جنوب فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية، تحت عنوان:

Islam, democracy, the state and the West: A round table with Dr. Hasan Turabi

وكانت الندوة، عبارة عن (طاولة حوار مستديرة)، المتحدث الرئيسي فيها الدكتور حسن الترابي، وحوالي (23) دكتوراً وأستاذاً جامعياً، أشهرهم: د. مارك ن. أور رئيس لجنة الدراسات الشرق أوسطية بجامعة جنوب فلوريدا، وجون إيسبوسيتو من كلية الصليب المقدس ومتخصّــص في الحركات الإسلامية، وجون فول أيضاً متخصص في الحركات الإسلامية وله دكتوراة في (الطريقة الختمية بالسودان)، وكذلك الدكتورة كارولاين فلوهر لوبان، وهي متخصصة في قوانين الأحوال الشخصية بالسودان ولها كتب ودراسات في هذا المجال، فهي مؤلفة كتاب (الشرع والمجتمع في السودان1986) و(الشريعة والمشروع الحضاري في السودان 2018)، ومنهم أيضاً: دكتور بشير نافع، ورمضان عبد الله، وإميل ساحلية، وخليل الشقاقي، وآخرون.

ناقشت الندوة قضايا(الإسلام والديمقراطية والدولة والغرب)، وصدر محتوى هذه الندوة في كتاب لـ(دار الجديد – بيروت – لبنان)، تحت عنوان: (مع حسن الترابي: حوارات في الإسلام والديمقراطية والدولة والغرب)، وفي نهاية الكتاب حوار صحفي مطوّل مع الدكتور حسن الترابي، أجراه الدكتور التجاني عبد القادر ودكتور إبراهيم محمد زين، ودكتور بشير نافع، وتركّز الحوار حول إشكالية الانتقال من التنظيم إلى الدولة.

وفي ندوة المائدة المستديرة هذه، كان أهم محور وتحدي، طرحه الدكتور الترابي، هو: (العلاقة بين العسكريين والمدنيين)، وبين الصفوة أو النخبة، والجمهور. حيث يقول دكتور الترابي: “إنّ إحدى مشاكل السودان هي القطيعة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني، وهذه القطيعة تحمل قدراً وافراً من مسؤولية عدم الإستقرار السياسي والتقلبات العنيفة التي شهدها السودان”.

وهذه القضية بدت مهمة، كون الإنقاذ جاءت عبر انقلاب عسكري في 30\6\1989م، وبدأت الممانعة الشديدة تظهر في الانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي، وذلك برفض العساكر لأول الأمر (حلّ مجلس قيادة الثورة)، وحتى بعد حلّه، احتفظ رئيسه (بالبزّة العسكرية)، وكذلك رفضوا الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، والانتخاب المباشر للمناصب، من رئيس الجمهورية حتى رئيس المحليّة مروراً – طبعاً – بمنصب الوالي. والأعذار كانت أنّ الشعب يحتاج فقط لإصلاح الوضع الإقتصادي، وأنه كفر بالأحزاب، ولا يحتاج للحرية والديمقراطية، وكذلك من الحجج لتأخير هذا الانتقال، هو تصعيد العمليات العسكرية في جنوب السودان.

الثلاث سنوات الأولى، كانت كافية لإنجاز الإنتقال من حكم عسكري إلى حكم مدني كامل (حسب الكثيرين، ومن بينهم الإسلاميين). وقد خرجت – للعلن – دراسة مهمة للسنوات الثلاث الأولى لحكم الإنقاذ، وصدرت في شكل كتاب تحت عنوان: (المشروع الإسلامي في السودان: قراءات في الفكر والممارسة من 1989 وحتى 1992 شارك فيه كل من الدكتور حسن الترابي، والدكتور التجاني عبد القادر، والدكتور أمين حسن عمر، والدكتور محمد محجوب هارون.

الصراع بين التنظيم والدولة

ولكن استمر الصراع بين (التنظيم) بزعامة الأمين العام الدكتور حسن الترابي، من جهة (والدولة) برئاسة رئيس الجمهورية عمر البشير، من جهة أخرى (طبعا يُؤيّدها عدد من  الإسلاميين المدنيين)، ويبدو أنّ الإسلاميين لم يتعظوا بالذين من قبلهم، ممن حكموا في المنطقة عبر المؤسسة العسكرية، وعلى رأس هؤلاء حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، يقول الأستاذ المحبوب عبد السلام في كتابه: (الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء وخيوط الظلام): “لسنا أول حزب عقائدي ينشق على نفسه، ولكن ظننا أنّ عساكرنا خير من أولئك، وأنّ لهم براءة في الزبر، بل إننا نسينا ما درسناه في زبر الدنيا، وما قالت كتب علم الاجتماع العسكري”.

الترابي على رأس البرلمان

وحتى تضمن قيادة الحركة الإسلامية، تحويل أفكارها ورؤيتها في الدستور والحريات، والحكم الإتحادي والانتخابات، كان لابد من تحويل هذه الأفكار إلى الدستور والقانون، فجاءت بزعيم الحركة الإسلامية – دكتور الترابي شخصياً – رئيساً للمجلس الوطني (البرلمان)، وذلك لإجازة هذه القوانين، وإعطائها السند السياسي، والتنظيمي، وحتى الفكري.

هذا الأمر جعل قيادة الدولة تتذمر من هذا التحوّل والانتقال، خاصة بعد الخطوات القوية والجريئة التي تم اتخاذها، وذلك بالمضي قدماً في إجازة عدد من القوانين، فبدأت تشعر أن السلطة بدأت تتسرّب من بين يديها، بالآتي :

أولاً: قانون الصحافة (حرية بلا رقابة).

ثانياً: قانون الانتخاب، لا مجال فيه لعسكري في الخدمة، أن يكون نائباً في البرلمان، أو في منصب سياسي (حتى الرئيس نفسه).

ثالثاً: الميزانية: تمنح النواب الحق في التصرّف بسلطتهم في المال العام، واحتياطياته الضخمة بعد تدفّق أموال النفط ودخولها ميزانية العام 2000 (تصدير أول باخرة نفط كان يوم 30 أغسطس 1999)، وبذلك تكون ميزانية الدولة تحت تصرّف البرلمان، وليس رئيس الجمهورية.

رابعاً: اعتراض الرئيس على انتخاب الولاة من شعب الولاية وأهلها، والإبقاء على سلطة التعيين المركزي بيده.

خامساً: ممارسة المجلس الوطني لسلطاته الرقابية لمراقبة الوزراء ومحاسبتهم، وكشف قضايا الفساد والمفسدين، وتقديمهم للمحاكمة والمحاسبة، وإجازة قوانين ولوائح المؤسسات المختلفة.

سادساً: الاقتراح، باختيار رئيس للوزراء ليُمثّـل الحكومة.

لقد مثّل دستور 98، نقطة فاصلة في الصراع بين (التنظيم والدولة)، وأصبح الأمر جدياً، وتمايزت الصفوف، وقُسّمت إلى مجموعتين: (مجموعة التوالي) وتدعو للحريات، والإنتخاب والانتقال،  نسبة للمادة (26 ب)من دستور 98 والتي عُرفت بـ(التوالي السياسي)، والمجموعة الأخرى هي: (مجموعة الرئيس)، والتي تُؤيّد استمرار الحكم كما هو من أجل(هيبة الدولة).

مطبات في طريق الانتقال

قيادات الحركة الإسلامية دخلت أعداداً كبيرة منها في أجهزة الدولة، ومؤسّساتها المدنية والسياسية والعسكرية وشبه العسكرية (الجيش – الشرطة – الأمن – الخدمة الوطنية – الدفاع الشعبي – الشرطة الشعبية – والأمن الشعبي)، وكذلك في جهاز الدولة السياسي (ولاة – معتمدين – رؤساء محليات – وزراء اتحاديين – وزراء ولائيين – وزراء دولة – سفراء بالخارجية – وعدد كبير من المؤسسات والمنظمات والجمعيات والشركات ومعظمها ذات مكوّن تنظيمي)، حيث كانت بالبلاد (26 ولاية و100 محافظة و520 محلية) غير الحكومة الاتحادية.

وبذلك مالت توازنات القوى لصالح الدولة فأصبحت أقوى من سلطة التنظيم، وهذا ما خشي منه الترابي في حواره لمجلة قراءات سياسية في العام 1992، حيث يقول: “إذا نظرت إلى قيادات الحركة جميعاً، وحتى لو لم يطلبوا الولاية، وقاوموا شهوات السلطة والتزموا حد الإسلام بذلك، فإنهم إذا تقدموا كلهم إلى الدولة بحجة أنهم أخلص وأفقه، فستُحرم الحركة التي ينمو بها المجتمع من قوتهم، وستصبح الدولة هي المؤسسة الأقوى، وستجنح إلى أن تكون دولة شمولية مطلقة، وسيُحرم المجتمع من أن يكون فيه من يمكن أن يقوده ليكون هو الأساس للدولة كما ينبغي أن يكون”.

مذكّرة العشرة

والمطبّ الآخر هو (مذكرة العشرة 1998م) الشهيرة، والتي سحبت سلطات الأمين العام لصالح رئيس الجمهورية، وجعلت من القيادة التاريخية للحركة (سكرتارية فقط)! وزادت حدة الاستقطاب داخل أروقة وأجهزة التنظيم ومعركة (الانتخاب الداخلي) لأجهزة الحركة، والتصعيد لهياكلها العليا، ومؤتمرها العام من الولايات والقطاعات المختلفة، والنقاش الكثيف بالدستور، والقانون، والنظام الأساسي، واللوائح، والبرنامج العام، والتجهيز لمرحلة الانتقال الكبرى، بعد إجازة دستور 1998.

وكردة فعل لهذه الخطوة، وفي أكتوبر1999م، عُقد المؤتمر العام للمؤتمر الوطني، والذي يُعرف بـ(مؤتمر العشرة ألف)، وفيه أُعيدت السلطة للأمين العام، وأُلغيت بنود المذكرة، وتم إسقاط العشرة الذين قدّموا المذكرة، وحُرموا من دخول المكتب القيادي وذلك بـ(الانتخاب).

حل البرلمان

قامت الدولة بحل الأجهزة والمؤسسات، التي تقف بقوة في وجه سلطة الرئيس، فكان القرار بحلّ المجلس الوطني، حيث قطع تلفزيون السودان إرساله، في الرابع من رمضان، الموافق (12 ديسمبر 1999) وجاء الرئيس(بكامل زيه العسكري)، وأصدر قرارات تاريخية وضعت حداً فاصلاً لعلاقته بتنظيم الحركة الإسلامية في السودان وقيادتها، وسبق هذه القرارات بكلام عاطفي من قبيل (لم أنم لليلتين، وبعد التوكل على الله، كنت بين خيارين إمّا الفوضى، أو اتحمّل مسؤوليتي التاريخية)، فأعلن حالة الطوارئ بالبلاد، وحلّ المجلس الوطني، وألغى انتخاب الولاة.

يقول الأستاذ المحبوب عبد السلام: “استدار الزمان كهيئته إذن، وكما بدأت الإنقاذ ببيان عسكري أوّل في 30 يونيو 1989م، اختارت جماعة الرئيس الخاتمة ببيان عسكري في 12\12\1999م، تلاه الرئيس بنفسه في أمسية الرابع من رمضان من العام 1420هـ، أعلن فيه حل المجلس الوطني (قبل تمام أجله)، رغم أنّ حجة البيان الرئيسي، كانت أنّ المجلس انحلّ لـ(نهاية الأجل)، وإذ إنّ الدستور لا يُعطي الرئيس ذلك الحق”.

الشعب ميدان المعركة

اختار الأمين العام الدكتور الترابي، اللجوء إلى الجماهير لمواجهة قوة الدولة وعسكرها، فعقد الندوات العامة في جامعة الخرطوم وجامعة القرآن، وجامعة الجزيرة بود مدني، وأم ضواً بان، والأبيض، ولقاءات الطلاب، والمهندسين، والأطباء، والمعلّمين، والمحامين، وشيوخ الطرق الصوفية، وزعماء القبائل، لذا قام الرئيس بتجميد الأمين العام وأماناته، وأمانات الولايات، وذلك بقرارات أخرى عُرفت بقرارات (الثاني من صفر) وتوافق السادس من مايو العام 2000 ولحظة القرار كان الترابي في محاضرة بمدينة بورتسودان بشرق السودان.

ومرت شهر ونصف ونشطت لجان مصالحة داخلية (رأب الصدع بقيادة عبد الرحيم علي) ووفود من إسلاميي الخارج (القرضاوي والزنداني وعربيات وغيرهم)، ولم تُفلح كل هذه الجهود لرأب الصدع بين التظيم ودولته، فاختار كل طريقه، فأصبح الرئيس هو رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وكون الأمين العام حزباً جديداً معارضاً هو المؤتمر الشعبي.

عبرة المسير

انشأ الإستعمار طبقتين في المجتمع فسمى إحداهما الصفوة أو النخبة وحظيت بالتعليم والمناصب، والأخرى هي الجمهور العام، وكذلك هناك قسمة أخرى وهي مدني وعسكري، لكن تنظيم الحركة الإسلامية – والذي نشأ في كنف الصفوة والنخبة – حاول معالجة هذه المشكلة، يقول الشيخ الترابي في (حوارات في الإسلام، الديمقراطية، الدولة، الغرب): 

“وحاولت الحركة الإسلامية أن تستدرك كثيراً من عيوب الطبقة التي نشأت فيها، وهي الصفوة المتعلمة التي لم يكن أخطر ما فيها هو القطيعة بين ما هو مدني وما هو عسكري، ولكن القطيعة بين الصفوة والجمهرة العامة”.

فماذا فعلت الحركة الإسلامية، يقول أيضاً:

“ولكن الحركة الإسلامية بعمل توكلي – عقيدي – كسرت هذا الحجاب وتحولت إلى حركة جماهيرية، خاصة في الثمانينات من القرن العشرين، وبذلك هيأت نفسها بعد أن تمكنت في الأرض، لأن تتحول إلى مجتمع حتى لا تكون حزباً واحداً باطنياً يدير الدولة، ويكون وصياً على المجتمع إلى يوم القيامة. فهذا ليس بنموذج إسلامي، وإن كان نموذجاً معروفاً في النظم الوضعية، لذلك هيأت نفسها لأن تنحل في المجتمع”.

وهذا يستوجب مزيد من الحرية حتى ينمو التدين الصادق، يقول الترابي:

“إنه لا بد من توفير قدر واسع من الحرية لأنه لا يمكن للتدين أن ينمو إلا في مناخ الحرية، لأن التدين هو تحرر من واقع القهر والسلطان. فالحرية لازمة من لوازم التوحيد وضرورة من ضرورات تنمية التديُّن، ولا بد من أن نهيئ لها المسلمين؛ لأن المسلمين لم يتهيئوا لهذا القدر من الحرية”.

والترابي يعرف تماماً خوف المسلمين من الحرية –  رغم أن غيابها هو سبب التدهور والأنحطاط – واتساعها وما ستجلبه عليهم، فتراه يقول في كتاب (فقه الدعوة آفاق وملامح):

“ثم إن المسلمين يفزعون جدًّا من الحرية، حتى الذين يدعون إلى فتح باب الاجتهاد،

والحرية إذا اتسعت، اتسعت الآراء وازدهرت وتكاثرت، وإن كان في الدين يقينيّات وقطعيات يجمع عليها الناس فستقوم حولها آراء واختلافات وظنّيات واسعة. فلا بد من إتاحة الحرية حتى يألفها المسلمون ولا يفزعوا من الخلاف مثلاً ويحسبوا كل خلافٍ فتنة، ولا يقدروا أن كل شيء في الدين قطعي”.

والترابي يدعو حركته للذوبان في المجتمع وعدم اعتزاله، ولو بمفهوم (العزلة الشعورية) لسيد قطب، لأن التنظيم ليس غاية في ذاته، حيث يقول:

“فحركة الإسلام التي كانت مؤهلة بشيئ من زاد الفقه والزاد الإيماني تفنى اليوم في المجتمع. وكلما تحقق للمجتمع وجود وحضور للإسلام كلما ذابت هي فيه لأنها ليست غاية لذاتها، وهذا امتحان عسير في مراحل الإنتقال لكل حركة”.

وإذا اعتزلت الحركة المجتمع فستتعرض لأعظم الإبتلاءات وهو التحول إلى طائفة.

يقول الترابي:

“من أخطر الابتلاءات التاريخية التي تُجابه الحركات هي أن تتحول من حيث لا تدري من دعوة منفتحة مقبلة على الناس، تُريد أن تستوعبهم للإسلام ولا تنحصر في ذات أمرها ولا تعكف أو تطّوف حول نفسها، إلى طائفة مغلقة تزدهي بتاريخها وبرجالها وتريد أن تحتكر الفضل والعلم والكسب كله”.

خاتمة

فبعد اثنين وعشرين سنة لقرارات الرابع من رمضان (الرابع من رمضان 1420، والرابع من رمضان 1442)، هل ما زال الإسلاميون يُصرون على تكوين تنظيم أقوى من الدولة ومعتزلاً المجتمع ؟ أم يكتشفوا عبرة المسير ويُحددوا المصير ويمشوا على صراط مستقيم، ويعوا الدرس والحكمة التي قالها الشيخ الترابي في وصفه لتطور الحركة الإسلامية في حواره مع عمر عبيد حسنة (الإنتقال من المبادئ إلى البرامج في يناير 1985 بقوله:

“وكثير من الأحزاب التي ادّعت أنّها طلائع لتحول اجتماعي، لمّا وقع تحوُّل اجتماعي، أصرت على أن تظل هي متمكنة في السلطان، وتحتكر السلطة، وأضرّ ذلك بقضيتها ذاتها، لأنّها بدلاً من أن يحاصرها الأعداء الذين يريدون أن يكيدوا لها، رضيت هي بأن تُحاصر نفسها، وبدلاً من أن يعزلها غيرها، اعتزلت هي وتجردت، وأصبحت جسماً منفصلاً عن المجتمع. وهذا يقتضي شيئاً من الصبر ومن التربية. فكلما اتسع الإسلام ضعفت هي”.

Related posts