د. عبد الله على ابراهيم يكتب: التطبيع كمفردة في سياستنا الداخلية

(كلمة قديمة)
ساورني إشفاق كبير على الأمن الفكري لطليعة الكتاب التي اجتمعت بوحي من فكرة نبعت من الأستاذ محمد إبراهيم نقد لحث السودانيين للتبرع للحكومة المنتخبة الجديدة لفلسطين. خشيت عليهم من ترويع جيل من السودانيين فصيح في المنابر وقد فهموا بصورة ما أن فلسطين قضية عربية لا غير. وهم يريدون أن يعرفوا قبل أن يتعاطفوا معها عما فعله العرب لبعض السودانيين في الهامش ممن ضاقوا الأمرين تحت حكم الفريق البشير الموصوف ب “العربسلامي”.
وقد وقع القدر ولكن كان لطف الله بجماعة الكتاب كبيراً. فقد انبرى لهم في منبر السودانيزأون لاين من قال لهم: “ماذا جنينا من العرب؟”. وسمى جماعة الكتاب ب”جيل الفشولات” الذي يبكي لفلسطين بينما يبقي سودانيو الهامش بلا بواك عليهم في المهندسين بالقاهرة أو في الإعلام العربي الذي يسيطر عليه الفلسطينيون. وطعن الرجل في الفلسطينيين لأن الخونة من وسطهم اشد إيلاماً لأهلهم من الإسرائيليين. ومن لطف الله أنه لم يتبرع لمبادرة نقد أحد وإن قرأها نحو 600 مساهم في المنبر.
لسنا نقيس شيوع هذه العاطفة السودانية المضادة لفلسطين بضعف الإقبال على رسالة نقد. فهذه عاطفة شائعة. ومصادرها عديدة أكثرها خطراً أن إسرائيل لم تعد دولة كيان بعيد عنا لأنها أضحت مفردة في متاعبنا تحيط بالإشكال السوداني إحاطة السوار بالمعصم. فقد تابعت بأسى كبير كيف أن بعض مواطنينا من غير العرب أو المسلمين، أو حتى بين العرب أو المسلمين، قد حملتهم بغضاؤهم المستحقة لدولة الإنقاذ ليستعينوا بإسرائيل بصورة أو اخرى في شأنهم.
فالثابت من القديم أن الأنيانيا الأولى لقت عوناً من إسرائيل في مسعاها نحو الانفصال بالجنوب. أما الحركة الشعبية، التي ورثت أمانيها القومية الجنوبية، فقد أنكرت دائماً وأبداً كل صلة لها بإسرائيل برغم توارد القول عن دعم إسرائيلي لها من جهات محايدة ومغرضة معاً. ونَفي الحركة هذه الصلة شئ نحمده لها لتطييبها خاطرنا نحن مواطنيها من العرب والمسلمين ممن تؤرقنا إسرائيل بشكل خاص جداً. و الحركة، من الجهة الأخرى، غير مشحوذة للتبرؤ من إسرائيل. و يكفي رفاقنا المناضلين في الحركة وقفة يتأملون أمانيهم القومية وأوجاعهم كمستضعفين ليعرفوا أن إسرائيل تنتمي إلى الظلمة من كل شاكلة. ومع ذلك نريد، نحن رفاق الحركة من الثوريين العرب والمسلمين، لقلبنا أن يطمئن أن ما كان يشاع عن عون إسرائيل للحركة مجرد وساوس إنقاذية مما تحسنه الإنقاذ. ولن أنسى أن من آخر كتابات المرحوم الفاتح التيجاني مقال عن وثائق فيها تداخل للحركة الشعبية وإسرائيل. ونأمل أن تولي الحركة في ظل تحولها إلى حزب سياسي هذه المسالة الشاغلة لحلفاء لها أكثر عنايتها بما يزيل عنهم ما علق من لبس حول علاقتها بإسرائيل.
بل تجد بين العرب والمسلمين من بدأ يستسهل القول عن أو الخلطة مع إسرائيل. فلم أرتح لقول الدكتور حيدر إبراهيم من قريب جداً أنه مهما قلنا عن إسرائيل فالانتخابات تجري فيها أمام عيون الأشهاد. ويضيف بأن هذا ما لا ليس بوسعنا قوله عن الدول العربية. وأتمنى أن تكون هذه كلمة قالها في حالة غضب. . . يزول. فليس يصح في منزلة الحق والتربية أن تأتي بالانتخابات وإسرائيل في جملة مفيدة. فمقارنته بين دولة عربية مستبدة ودولة الكيان هي ما يصفه الناس هنا بمثل المقارنة بين البرتقال والتفاح. فهناك دول قد يصعر الحكام خدهم أو لا يصعروه ولكنها دول مشروعة ما تزال. ولكن هناك كيانات ما انزل الله بها من سلطان في المصطلح السياسي. فهي من جسد الدنيا كالدمامل. فقد سبق للنظام العنصري في جنوب أفريقيا أن أجرى انتخاباته على عيون الأشهاد ولكن لم يدخله ذلك في الحق أو يخرجه من الباطل. يكفي أن من صوتوا لقيام نظام الفصل العنصري في انتخابات 1984 كانوا بنسبة نحو ٤٠٪ من الناخبين البيض الذين اقتصر الاقتراع عليهم تقريبا. فأختلف حتى البيض حول نظام الأبارتايد الـذي حام حول انتخابات ١٩٤٨ كالنذر. فناصرت الأرياف الحزب الداعي للفصل العنصري وانتصرت المدن للحزب المتمسك بشكل أدني خطراً من التفرقة العنصرية.
ليس من خسارة لقضية البناء القومي السوداني أنكأ من تلك التي لم تر فيها جماعات من ثوار الهامش عندنا من فلسطين سوي أنها قضية عربية في مقاس الإنقاذ أو أي مركز “جلابي” آخر. وهي خسارة تعدل مثلاً لو لم ير أحد من قضية جنوب أفريقيا سوي أنها قضية أفريقية. ومصدر الخسارة في حال فلسطين أن مسألتها حوت المعاني التي في جوهر ثورة هذا الهامش. فلو صح حديثهم عن خضوعهم لاستعلاء عرقي، أو لاستعمار داخلي أو استيطاني، أو حتى الأبارتيد، كما قال جون قرنق ذات يوم، فلن يجدوا لهـذه المواجع تجسيداً أكمل من تجسيدها في مسألة فلسطين. فمن ساقه ضيقه بالإنقاذ إلى استدبار القضية الفلسطينية صح أن يراجع نفسه إن كان ما يشكو منه لحد رفع السلاح قد بلغ الشغاف منه أم أنه قدر ظروفك.

Related posts